الأربعاء، 7 مايو 2025

لعنة الكلمات في إطارٍ من الوهم - قراءة إنطباعية لفيلم "وهم" للمخرج عيسى الصبحي الحائز على جائزة بمهرجان أفلام السعودية

 





لعنة الكلمات في إطارٍ من الوهم

قراءة إنطباعية لفيلم عيسى الصبحي "وهم"

 

في خضم المحاولات العُمانية الشابة التي تتسيد ساحة الإشتغال السينمائي في الوطن الذي ما يزال يتلمس طريقه في عتمة التجارب وإضاءات النجاح الأقليمية المحدودة، هنالك تجارب يمكن أن تُقاس بالمسطرة والقلم مروراً بعملية قيصرية بين فهم ماهو مستقل وما هو تجاري في هذا الإشتغال.

إنه من المُلفت حقاً أن تشاهد صناع أفلام عمانيون لا يتجاوز عددهم أصابع اليد العشرة يحاولون تقديم طرائق مختلفة في تقديم القصة والقضية داخل أفلامهم في عملية أشبه ما تكون كمحاولة للهرب من سطوة التعايش والتصبغ التلفزيوني والمسرحي الطويل الذي يسري في عروق فناني الصورة المتحركة بيننا. ومن هذه الأسماء يمكن أن نذكر المخرج الواعد عيسى الصبحي إن شئت أن أضعه في هكذا سياق هو بلا شك أهلٌ له. والخوف كل الخوف أن يضمحل هذا العدد (العشري) نتيجة لعدة ظروف نعلمها جميعاً في حقل صناعة الأفلام السينمائية , فكرة الإضمحلال بحد ذاتها مقلقة جداً.

بين توجه أندريه بازان في فهمه لأفلام الواقع حيث يعتقد أن الفيلم السينمائي يجسد ويحاكي الواقع – ما يتجلى مثلا في إيمان بازان بالصورة الساكنة كأحد المدخلات بالموضوع -  وبين توجه سيرجي إيزنشتاين الذي يعتقد أن الفيلم لا يحاكي ولا يجسد الواقع وإنما يقدم تفسيرا له, نأتي لفرجة لفيلم عُماني صانعه برز في صنف الأفلام الواقعية " الأسود لا يليق بك " كنموذج ويأتي اليوم ليقدم لك فيلما مُتخماً بالرمزية, نتحدث هنا عن فيلم " وهم" الفيلم التجريبي القصير الحائز على جائزة أفضل فيلم خليجي قصير بمهرجان أفلام السعودية بنسخته الحادية عشر – مع تحفظي على تصنيف الفيلم كفيلمٍ تجريبي -.

كمُتداخل أو ربما طفيلي مرغوبٌ به – وأعني نفسي هنا- , جمعتني عدة جلسات ونقاشات مع مخرج الفيلم الصبحي وكان من الواضح أن التجليات والمؤرقات التي تدفع الصبحي لصناعة أفلامه هي تجليات واعية شخصية إذا ما قيست بالرغبة العارمة في تقديم شيءٍ مختلف حتى وإن كان في قالب الهوية المتعارف عليها( هوية المكان والفراغ واللهجة والملبس والصوت..الخ) وجل هذه التجليات والمؤرقات تتقاطع بتعارض مع النزعة التقليدية في صناعة الفيلم العُماني كما عشناه وتعودنا عليه لعدة سنين من عمر الزمن. أن يعود الصبحي لإخراج فيلم يرتكز على رمزية عالية بعد رحلة إنجاز مع فيلم يرتكز على واقعية مدقعة لهي مغامرة مثيرة وخطرة أشبه بعبور رائحة عطر غانية في مقهى لم يعتد رواده إلا رائحة البخور والثلج والتبغ وقت الصيف. الصبحي حذرٌ جدا وقلقٌ جدا حينما يتعاطى مع تجربة صناعة فيلم وعادةً لا تمثل له هذه التجربة مرور كرام أو تحصيل حاصل. ربما هذا أحد أسباب إعجابي بهذا الشاب.

كان الشعور الأول الذي راودني حالما أنتهينا من عرض فيلم "وهم" – أشكر سريال على جلسة المشاهدة المثرية هنا – هو شعورٌ غامر بالجوع والتعطش وعقبت عليه مباشرة حينها بأن هذا الفيلم كان مخنوقاً بما يشبه الذكاء. حيث كانت الخطوط الدرامية بتلك الدرجة التي تخلق النهم في نفس المشاهد لطلب مشاهدة المزيد كما أنها كانت مخنوقةً في فيلمٍ كان له أن يمتد لأكثر من 21 دقيقة ولكن طريقة إزجاء الرمزيات المختلفة بالفيلم كانت من الذكاء بمحل.

السرد:

فمن ناحية الفكرة والموضوع كانت تجربة الصبحي الفلمية مستندة ً إلى حدٍ ما لتجربة شخصية (إقتباسا لا نقلا مباشر) حرص على تقديم محاولة فهمٍ لها بطريقته الخاصة. قصة الرجل الذي يعاني من حالةٍ نفسية تُعاني في خضم مشاهدة تناقضات البشر وتبحث عن منفذٍ ما للهرب من نفسها المخنوقة المحطمة. التطرق لهذا الموضوع يُحسب للصبحي كناحية من نواحي التجديد التي قل أن نراها في الأفلام العُمانية السائدة والتي تركز على القرية والإرث والتقاليد فكان موفقا في تقديم موضوعً حديث بفكرة رائعة. مكانٌ وزمانُ حديثين مع شخصيات مُحددة قادت سير الأحداث. وعندما نتحدث عن الأحداث , وجدت أن الحبكة في الفيلم تعاني من بعض الترهل والحشو اللامرغوب من حيث وجود بعض المشاهد والحوارات المباشرة التي كان بالإمكان الاستغناء عنها – لا سيما في فيلم يُقدم رمزية عالية – ذات الحكبة التي تضمنت نقصا في بعض الأحداث التي كان من الممكن أيضا أن تضيف عمقاً ومصداقيةً أكبر لدى المشاهد في طريقه لفهم الفيلم والرمزيات التي تطُهى وتُقدم لمائدة عينيه. أما بناء الشخصيات فكان مرضياً إلى حد ما فسرني كثيراً أن أرى إنتقال الشخصية الرئيسية من حال إلى حال وهي ترتل زمكانيا بين اثنتين من مساحات التضاد (قرية – مدينة). تمنيت هنا أن أعرف أكثر عن الشخصية الرئيسية وأعرف قصتها الخلفية والمأل الذي دفعها كاتب السيناريو للظهور أمامنا بتلك البنية والتجسد.

أما فيما يتعلق  بالرمزيات والتناقض والتضادات فلقد كان كلاً من كاتب السيناريو والمخرج بوصفه السارد البصري للقصة واضحين وموفقين في تقديمها لأعين المشاهد مباشرةً ولنا هنا أن نحيي كلاهما على القدرة في طرح مدخلات رمزية بطريقةٍ مباشرة بصرياً. نجد في خضم هذه التناقضات المجتمعية وجود الصالح والطالح المحروم والمحظوظ الواهم والمؤمن , الساكن والمتحرك, النظيف والملوث بل والمتعلم والجاهل. وأختم حديثي عن جزئية السرد في مشهد البحيرة بالفيلم والذي إرتبط مباشرةً بالعبور والتطهير, أحدى الثيم التي لطالما سحرتنا في عدة أعمالٍ خالدة من السينما العالمية.

وأما عن الحالة الوجدانية, فلقد ساعدني هذا الفيلم لمحاولة فهمٍ أكبر لضعف الإنسان وما يمر به من قلق تجاه النفس والمحيط. تأملاته فيما هو مستحق أن تتفاعل معه وفيما لا يستوجب أن تعيره إهتماماً ولنقس على ذلك الرغبة في الحياة ذاتها. البطل في الفيلم غارقٌ في الهرب مما حوله ليحاول أن يعيد تشكيل مشاعره وأفكاره مجددا لتتناسب بما يدور حوله حتى وإن لم يرغب بذلك اصلاً. أن تشعر بأنك لا طاقة لك ولا روح في أن تعيش وفق ما يقوم الأخرون بتفصيله لك على مقاسهم ويتحتم عليك أن تعيشه رغماً عن نفسك المنهارة التي تغدو ذهاباً وعودة في محاولة للفهم والإدراك. أن تشعر بأن تلك المعركة مع الحياة والوجود مرهقةٌ حقا لا نهاية لها وقد تقودك إلى الجنون في وقتٍ أنت لا تفهم ولا تعي فيه نفسك وتشعر أن الأخرين لا يفهمونك أيضا وربما يكونون مجرد عبيء تتمنى وجوده لتشعر بأنك إنسان طبيعي. إنه من المأساة والملهاة معاً أن نعيش في هذا العالم بقناعات لا تستوعبها أرواحنا وتكاد تبتلعنا وتبصقنا كيفما تشاء.أليس كذلك؟

 

التصوير:

نقلنا الصبحي عبر عدسات كاميرته (الأري كلاسيك ) في بُعدين بالكادر فشكل لنا تكوينات تتناسب مع الحالة المزاجية للشخصية بالمدينة والحالة المزاجية في القرية وذلك بإجادة وضع أحجام اللقطات المناسبة في الحالتين, فنرى اللقطات المقربة والمتوسطة للمواضع التي كانت بها الشخصية في المدينة وما تمر به من ضيقٍ وكرب وأختناق  ثم نرى اللقطات الواسعة والواسعة جدا للمواضع التي كانت به الشخصية في المدينة وما تمر به من راحة وإنفتاح على الحياة. ومع وجود تركيز غير مفهوم أو مبرر لسطوع مستمر – أزعجني في النصف الثاني من الفيلم- بالإضافة إلى بعض الإهتزازات والخِلة في حركة الكاميرا في بعض المواقع التصويرية – الشيء الذي برره المخرج بصعوبة التصوير في عدد من المواقع الجبلية – نستطيع أن نلاحظ الفرق في النتاج البصري للفيلم بين عمليات التصوير في المدينة والتي كانت هادئة نظيفة مُتحكم بها وبين عمليات التصوير في القرية الجبلية والتي كان يشوبها بعض العيوب. أما عن الألوان المستخدمة بالفيلم فوجدتها مريحة تتماشى مع توجه المخرج في تقديم فيلمٍ قلق يتحدث عن القلق ويرغب في أن يكون المشاهد قلقاً وهذا ما كان له أن يكون.

 

الصوت:

من العناصر التي أزعجتني شخصيا بالفيلم كانت الموسيقى. برأي الشخصي أن الموسيقى تكاد أن لا يكون لها محلٌ من الإعراب في هذا الفيلم. والسبب الوحيد لذلك هو الفضاء المتخم بالعناصر الصوتية الطبيعية التي تمنيت أن أراها في الشطر الثاني من الفيلم ( شطر أحداث الجبل)  ولكن المخرج حرمني منها واستعاض عنها بموسيقى ليكرس الرحلة الزمنية والتنقلات التي خاضتها الشخصية فور وصولها إلى الجبل بما يشبه الكليشيه الذي تعودنا أن نراه في فئة أفلام الطريق. كما أن بعض الحوارات إتسمت بسمةٍ من المباشرة وإن كانت طفيفة بينما أخذ الباقي منها مكانه وموضعه الصحيح تماماً. و في حديثنا عن الحوارات شعرت كمتلقٍ وصانع أفلام أنه (ربما) طبيعة السيناريو المخصص لفيلم مستقل كانت تجربة جديدة للمثل المخضرم بالدور الرئيسي والذي إعتدنا رؤيته في المسسلات الدرامية المختلفة, ولأكون صريحاً وعادلاً هنا, كان الممثل في قمة عطاءه وتألقه في عدة مشاهد من الفيلم لأنه وجد فيها مساحته التي يُعطي فيها بينما غاب هذا الوهج والتالق في بعضٍ من المشاهد الأخرى بحيث لم يوصل إلى ذلك الشعور بالمعاناة والتشتت والبحث عن المخرج المأمول لمشكلته, ربما كان النص أحد الأسباب وربما كانت التجربة الجديدة هي السبب.

 

ختاماً:

عندما ننظر للفيلم السينمائي بمنظور يتجاوز الإستحقاق والجوائز أو السلعة أو التسلية والترفيه ونستبدل كل هذا لنراه بمنظور الموقف والفكرة (موقف المخرج وفكرته) سنعجب ونحب حتماً فيلم " وهم" وسنراه بتلك النظرة التي إستطاع فيها المخرج أن يخلق شيفرة مع المشاهد من خلال عناصر الفيلم وإن كانت تلك الشيفرة يشوبها بعض النقص والتقصير في بعض الجوانب. فالصبحي قدم لنا فيلما يحاول أن يخلق إتزانا بين الشكل والمضمون وعبر عن عدة هواجس شخصية تهمه وتلامسه وقدمها إلينا في فيلمٍ روائيٍ (ولا أقول تجريبي) قصير.

 

 هيثم سليمان

كاتب ومخرج سينمائي

 

 

 

الخميس، 6 فبراير 2025

 

 


هوبَال

بين المُعتقد والتمرد جنائزية متخمة بالهوية

هذا الفيلم يحتاج إلى مشاهدة شديدة التركيز بعيدة عن الضوضاء والأحاديث الجانبية التي قد نقترفها وقت تواجدا في صالات السينما مع العلم أن إضاعة دقيقة واحدة من الفيلم ستكون مبعثا لفقدان القدرة على ربط الأحداث ببعضها البعض طوال الفيلم

منذ طرحه في دور السينما السعودية يوم 2 يناير 2025، حقق الفيلم مبيعات تجاوزت التوقعات، في أول ثلاثة أيام، بيعت أكثر من 32,980 تذكرة، محققًا إيرادات تجاوزت 1.5 مليون ريال سعودي. ولم يتوقف النجاح عند هذا الحد، بل ارتفعت الأرقام بشكل كبير في الأسبوع التالي لتصل إلى إجمالي 9.1 مليون ريال سعودي خلال أسبوعين، مع بيع أكثر من 199,000 تذكرة

في حيزٍ زمني يصل مداه إلى حوالي 112 دقيقة قدم لنا المخرج السعودي عبدالعزيز الشلاحي واحداً من أفضل إشتغالات السينما السعودية الشابة بل هو أفضلها على الإطلاق حتى الأن حسب رأي الشخصي الذي شاركني فيه العديد من النقاد السينمائيين والفنين أمثال الناقد السعودي فهد اليحيى عضو مؤسس لجمعية السينما السعودية. لطالما كان هنالك سباق محمومة من الرهانات على تقدم السينما السعودية لاسيما في ظل الوفرة والسخاء في الإنتاج والتي لم تكن بهذا المستوى سابقا. عليه لن نستغرب بروز فيلم كهذا الفيلم الذي بين يدينا اليوم وإنما بقي السؤال في حينه هو في أي مرحلةٍ من هذه الوفرة سيظهر مثل هذا النتاج، فجاء الجواب على لسان الشلاحي:  مبكراً ربما.

كوني أحد المخرجين الشباب الذي يسعدون دوما برؤية إنتاجات زملائهم المخرجين الشباب في الوطن العربي , لطالما كانت بوصلة السينما السعودية عامل جذب يدفعني إلى صالة السينما بين الحين والأخر كلما سمعنا عن فيلم ٍ سعودي يصبح حديث الساحة فتكرر هذا النمط لدي عدة مرات في فترات متقاربة سواء في إشتغالات تلفزيون 11  أو مع بقية المخرجين ونسوق هنا بعض الأمثلة على أبرز الأفلام التي شاهدت  مثل مشعل الجاسر (ناقة 2023 ) , علي الكلثمي (مندوب الليل 2023 ) , أبو بكر شوقي (هجان 2023 ) , محمد السلمان (أغنية الغراب ), فارس قدس (أحلام العصر 2023 ) , أيمن جمال (بلال 2015 ) , عبدالله العراك (سطار 2022 ) , مالك نجر ( راس براس 2023)

 

وما يثير الأسئلة والإعجاب أن ترى السينما السعودية قادرة على التنوع في القوالب وطرق الطرح ضمن موجة الأفلام الشابة الجديدة التي تطرق مختلف المواضيع والقضايا وتأتي بمختلف الطرائق الإخراجية وأطروحات القصص. إن ما يعزز هذا النمط من تنامي ونضج التجربة لدى المخرجين السعوديين هو شهي وإقبال الجماهير السعودية والعربية على نتاجاتهم مصحوبا بتلك الخلطة  المغرية التي نتمنى أن نراها كتجارب في عدة دول عربية أخرى لدينا، خلطة المعرفة والمال

وبعد هذه المقدمة التي كان لا بد منها – ولك أن تأخذ بعضاً منها كمرجع للمشاهدة – نبدأ الغوص في بعضٍ من تفاصيل فيلمنا الحالي، هوبال وذلك من خلال عدة محاور.

 

أولا القصة:

ولكي نقف جميعا على عتبة بابٍ واحد لفهم القصة قبل أن نفهم ونشعر بجمالياتها التي صاغها كاتب السيناريو الرائع مفرج المجفل دعونا في البداية نسردها من باب الفهم لا أكثر. فهنالك شخصيات حاضرة نراها رؤى العين ونتفاعل معها مباشرة وهنالك شخصيات غائبة لكنها تمارس من الأثر ما يجمع قطع الأحداث بالقصة وخطوطها الدرامية. لدينا هنا كلٌ من:

الجد ليام: كبير العائلة والرجل المتسلط فيها والذي يؤمن بأن قيام الساعة قد اقترب

الجدة نورة: زوجة الجد ليام التي تنصاع لسلطة زوجها وتحاول إدارة العائلة في غيابه

سطام :  أحد أبناء الجد ليام – وهو الإبن الذي خضع لأمر زوجته وترك العائلة وطريقة عيشها بالصحراء وذهب إلى المدينة وعمل في السلك العسكري هناك متمردا على أوامر أبيه الجد ليام.

نهار : أحد أبناء الجد ليام – وهو الإبن الذي نراه صامتا في معظم قصة الفيلم بسبب نذرٍ قطعه على نفسه بعد موت أخيه ماجد وزوجته.

ماجد: أحد أبناء الجد ليام - والذي عصى أوامر أبيه وفر بزوجته المريضة بالحصبة نحو المدينة من أجل علاجها لكنهما تعرضا لحادث سيارة تسبب به مباشرة أخوه نهار.

شنار : أحد أبناء الجد ليام – وهو  زوج سرة زوجة ماجد السابقة .شنار هو الإبن الذي يبدو ظاهريا أنه ينصاع بطاعة مطلقة لوالده الجد ليام لكنه يخفي سر ما يتعارض مع هذه الطاعة بشكلٍ صريح.

بتال: أحد أبناء الجد ليام – وهو أصغر الأبناء وأكثرهم حرصا على إتباع تعليمات أبيه ليام بالرغم من رغبته العارمة في الزواج والاستقرار بالمدينة.

سرة: وهي الفتاة التي أحبت ماجد سابقا لكنها تزوجت من أخيه شنار. كما أنها أم الصغيرة ريفا التي نشاهدها مصابة بالحصبة في بداية الفيلم.

صيتة: زوجة نهار التي فُجعت بموت إبنتها غزيل بسبب الحصبة وتعاني من هجر زوجها نهار لها وعدم حديثه معه مذ توفي أخاه ماجد.

معتوقة: وهي عاملة لدى العائلة قامت الجدة نورة بتبنيها وتكن للجدة نورة حبا شديدا لكنها ترغب بالزواج من أحد أبناء الجد ليام.

ريفا: وهي الطفلة الصغيرة إبنة شنار وسرة المصابة بالحصبة والتي تخوض صراعا بين عصيان جدها ليام وبين رغبتها في العلاج من المرض.

عساف: إبن ماجد الذي كان يجهل سبب وفاة والده ويحاول جاهدا مساعدة إبنة عمه ريفا للهروب إلى المدينة لتلقي العلاج.

غزيل: إبنة نهار وصيتة التي توفيت بسبب الحصبة ومعها تبدأ أحداث الفيلم وهي إبنة عم ريفا وإبنة عم عساف.  

المعلم السوداني: وهو معلم مدرسة يقوم بتعليم أطفال العائلة القراءة والكتابة.

 

يحكي فيلم هوبال قصة عائلة سعودية زمن بداية التسعينات من القرن العشرين خلال الفترة التي شهدت قيام حرب الخليج الثانية حيث تخرج هذه العائلة من المدينة بعد أن قرر كبيرها (الجد ليام ) نبذ المدينة والعيش في الصحراء المتاخمة للحدود السعودية الكويتية في وقتٍ تعاني فيه عائلته من حصد مرض الحصبة لأفراد العائلة. حيث أُصيب بهذا المرض سابقا زوجة إبنه ماجد ثم أصاب لاحقا حفيدته غزيل ابنة ولده نهار ثم حفيدته ريفا إبنة ولده شنار ثم أخيرا حفيده عساف إبن ولده ماجد ليطال المرض بهذا التسلسل كل مولودٍ من أحفاد الجد ليام لأبناءه المتزوجين.

حيث يؤمن الجد ليام بأن قيام الساعة قد إقترب من كثر ما رأى من أثام وفساد في المدينة فقرر النزوح بعائلته إلى الصحراء وممارسة الإعتكاف والتعبد هناك. وفور بداية الفيلم الذي ينكشف عن مأساة دفن غزيل إبنة نهار وصيتة نلاحظ مباشرة وجود خلافٍ ما ضمن العائلة ولن ننسى مشهد قتل الكلب في بداية الفيلم من قبل شنار عم المتوفاة غزيل بحكم تعود الكلب على صحبة غزيل واحتمالية نقله لعدوى الحصبة للجميع.

ومع تقدم الأحداث نبدأ في التعرف على أوجه الخلاف والخصام وفروض الطاعة العمياء واشكال التمرد السابق أيضا. حيث نعرف أن نهار والد غزيل لا يتحدث مع الجميع حتى زوجته المنكوبة صيتة بفقد إبنتها حديثا (غزيل). فنشهد بداية سلسلة الأكاذيب والمظللات التي يسوقها الجد ليام بإدعاء أن صمت نهار ينبع من صدمته من وفاة أخيه ماجد لحبه الجم له بينما سنعلم لاحقا أن صمت نهار هو بسبب قتله لأخيه ماجد زوجته عندما كان ماجد يحاول إيصال زوجته الى المدينة لتلقي العلاج. حيث قطع نهار نذرا على نفسه بعدم الحديث حتى يصل عساف إبن أخيه ماجد إلى سن البلوغ ليخبره بحقيقة موت والده التي يخفيها عنه الجميع ليعترف بذلك بجريمته النكراء تاركا خيار القصاص أو السماح لعساف. كان حال عساف كحال بقية أطفال القرية يعتقدون أن من تسبب في وفاة أبيه ماجد وأمه هو دعوات الجد ليام وعدم رضاه عن ماجد وزوجته.

كما نعرف المحاولات المستميتة التي تبذلها سرة زوجة شنار من أجل إقناع الجد ليام بالسماح بذهاب إبنتها ريفا وحفيدته هو إلى للمدينة لتلقي العلاج وبالرغم من حب الجد ليام لسرة لكنه يرفض رفضا قاطعا أن تغادر ريفا إلى المدينة تماما كرفضه أن يغادر أي فرد من أفراد أسرته إلى المدينة وإلا سيحل غضبه ودعواته عليه. وفي حقيقة الأمر يأتي معتقد دعوات الجد ليام على أي فرد يسخط عليه بمثابة قانون منزل ومحكم أشبه بالسلاح الفتاك الذي يصيب من يطاله بلا هوادة مما يجعلنا نشعر بذلك التخوف السائد بين أفراد العائلة من دعوات الجد ليام وينبع هذا المعتقد من مصدر ديني يتعلق بطاعة الوالدين ورضاهما والعقاب والثواب.

وفي الوقت الذي تحاول فيه سرة بشتى الطرق إقناع الجد ليام وزوجها شنار بإصطحاب ريفا الى المدينة للعلاج، نبدأ في التشعب في علاقات أفراد العائلة بعضهم ببعض وبالماضي . فنعرف أن سرة كانت تحب ماجد والد عساف لكنها تركته لتتزوج من أخيه شنار والكل تقريبا يعيبها على هذا التصرف. ونتعرف على بتال الذي يبدو ساخطا من العيش في الصحراء لاسيما بعدما فقد فرصة الزواج بحبه الوحيد إبنة مرزوق. ونعرف أيضا أن صيتة تعاني الأمرين بعد فقدها لإبنتها غزيل وغياب زوجها نهار وتجاهله المستمر لها حتى في الفراش. ونذهب في بعدٍ أخر يتمثل في علاقة الجد ليام بأحفاده الأطفال ومحاولته لتفسير العلاقات الأسرية والطبيعة من منظوره الخاص. وفي خضم ذلك نشاهد الفعل المتكرر لشتار الذي يقوم بفريغ صهريج شاحنة نقل المياه متعمدا دون سببٍ واضح في وقت يخوض فيه خصاما ظاهرا بينه وبين أخيه بتال يتعلق بطاعة أبيهم العمياء والمفاضلة بينها وبين العيش في المدينة. وفي داخل مساحات النساء نشاهد العلاقة بين سرة وصيتة ودور الجدة نورة في تمكين معتقدات وأوامر زوجها الجد ليام داخل تلك المساحات.

كل هذه الخطوط المتشعبة من العلاقات والتي حُبكت بمهارة بالغة تعزز وتغذي الحدث الرئيسي بالقصة ألا وهو فرار ريفا إلى المدينة لتلقي العلاج بمساعدة عساف الذي يظهر بالفيلم بدور البطل المنقذ المخلص المتمرد على تعاليم الجد ليام وأوامره.

وحينما يفرغ صهريج الماء بشاحنة نقل المياه يغادر شنار لجلب المياه في وقت يقرر الجد ليام وسط هذه المعمعة الذهاب إلى معتزله للاعتكاف كعادته سابقا، تبدأ الأحداث داخل الفيلم في التصاعد في غياب الجد حيث ينجح عساف في تهريب ريفا عبر الحدود الكويتية إلى المستشفى عبر طريقٍ خطرة تخلى فيها نهار عن مطاردتهما فيها استشعارا لذنبه القديم في قتل والدي عساف بالسيارة عمداً. وحينما يغادر بتال عم عساف وريفا للبحث عنهما يكتشف بمجرد وصوله إلى المدينة أن أخاه اللدود شنار في ضيافة مرزوق بل وقد تزوج من حبيبة بتال وله منها طفلة صغيرة مما يدفع بمشاعر الغضب في قلب بتال ويقلب العلاقة بين الأخوين إلى أتون ملتهب لتصبح الغاية الوحيدة لبتال هي إخبار أبيه ليام عن فعلة أخيه ومعصيته له فور عودة الجد من معتكفه في عمق الصحراء.

تنجو ريفا من المرض وتعود مجددا إلى الصحراء لكن عساف ونتيجة لإختلاطه بريفا أثناء طريقهما الى المستشفى يُصاب بالحصبة فتنقلب الأية رأسا على عقب لنرى ريفا تسهر خارج خيمة العزل اصحي في الصحراء بينما يعكف عساف داخل الخيمة مريضا لا حيلة له لاحقا.

وفي الوقت الذي تزداد فيه حدة الصراع بين بتال وأخيه شنار فيما يتعلق بإكتشاف سر زواجه من إبنة مرزوق وإزدياد حالة عساف المرضية صعوبةً وتردد سرة والبقية في إصطحاب عساف إلى المستشفى لتلقي العلاج, يتفاجأ الجميع بعودة الناقة الخاصة بالجد ليام في اليوم السابع وحيدة إلى المخيم مما يطرق باعثا للخطر ونذيرا للشؤوم في قلوب الجميع فتتولى الجدة نورة مباشرة قيادة المجتمع العائلي الصغير ويصبح لدى الجميع هدفٌ واحد ألا وهو العثور على الجد ليام الذي ذهب للإعتكاف.

وحينما يفشل جميع الأخوة في العثور على الجد في الصحراء , تستعين الجدة نورة بعساف ( الذي يعاني الأمرين من المرض) ليقتفي أثر الجد ليتم العثور على أغراض وعدة التخييم الخاصة بالجد في قعر إحدى الحفر ( مكان سقوط مذنب) لكن بدون وجود الجد ليام نفسه. فتبدأ موجة عاصفة من التساؤلات والتكهنات عن مكان إختفاء الجد فهل دخل إلى داخل فتحات الحفرة أم ذهب لمكان أخر؟ هل هو ميت أم حي ؟ لتبقى هذه التساؤلات حتى نهاية الفيلم دون إجابة.

في الوقت الذي تزداد فيه حالة عساف المرضية حرجاً يبوح نهار عم عساف بسره الأليم ويتحدث إلى عساف من خارج الخيمة مبيحا بقتله المتعمد لماجد وزوجته (والدي عساف) طالبا من عساف أن يتخذ القرار الذي يراه مناسباً بشأنه, يتعرض عساف لصدمة نفسيه ويغرق في البكاء نتيجة هذا الإعتراف المُر. وفي جانبٍ أخر تحاول سرة هي والعاملة معتوقة تهريب عساف إلى الكويت لتلقي العلاج في الوقت الذي كان فيه بتال عازما على تهريب عساف بدوره نكايةً في أخيه شنار لكن سرة ومعتوقة كان لهما السبق فيحملان عساف داخل صهريج المياه متجتهان إلى الكويت في سباق ٍ مع الزمن, لكن القدر يحكم بموت عساف في الطريق قبل أن يصل الركب إلى المدينة لينتهي الفيلم بمشهد دفن عساف بجوار قبر إبنة عمه غزيل وتستمر العائلة في طريقها بالصحراء مجددا بدون وجود الجد ليام الذي لم يعد.

 

وبعدما حكينا تفاصيل القصة عبر فصولها الثلاثة بداية، وسط ونهاية دعونا نذهب إلى باقي الانطباع

 

ثانيا: السيناريو

جاء سيناريو فيلم هوبال رائعا محكما ثقيلا بالخطوط الدرامية وبحبكة نكتشف عبر مراحلها سرا مع تقدم أحداث الفيلم حيث حرص كاتب السيناريو على طرح قصة بطريقة مختلفة متشابكة الخطوط متصلة بماضي وحاضر ومستقبل ممعناً في تبيان الفجوة والسلوك والفكر الذي جمع ثلاثة أجيال داخل عائلة سعودية في حقبة زمنية محددة.

حرص مفرج المجفل على التوغل عميقا في مكنونات الشخصيات بقصته وجعل القصة الخلفية للشخصيات حاضرةً طوال خط السردية ومؤثرةً على مفاصل الأحداث الرئيسية بالقصة لا سيما في بدايتها. كما أن الوعي الجيد بفضاء القصة ودوره في تبيان تطور الشخصيات وإختلاف أو برود إيقاعها ساهم في تثبيت واقعية جيدة إنعكست على أداء الممثلين لاحقا لا سيما الجد ليام وعساف وسرة وشنار.

ونحن ُنرحل في سيناريو الفيلم نستشعر البعد الاجتماعي والتاريخي في فضاء القصة لاسيما أن جزئية مواقع التصوير كانت أغلبها بالصحراء في تلك الحقبة فتارةً نكتشف الجد ليام وسطوته وتأثيره على المجتمع المصغر الذي يقوده مع إسقاطٍ واضح لمستوى فكر الجد وتارةً نكشتف روح عساف المتمردة التي تتأرجح بين الشك واليقين مع إسقاطٍ لطابع الطاعة والتربية في العائلة وهلم جرا من المكنونات الأخرى. لقد حرص كاتب السيناريو أن نتكشف مراحل تطور شخصيته الرئيسة عساف بمهل وتؤدة وكأننا في طريقٍ رملي وسط الصحراء قد لا ترى ما ينذر بالتغيير مباشرةً لكنه أتٍ لا ريب من خلال الأسئلة والتساؤلات سواءً مع جده ليام أو إبنة عمه ريفا. كما توغل كلٌ من الكاتب والمخرج الفني في وصف دقيق لفضاء القصة من حيث مكونات الكادر من ملابس ومعدات ومشروبات وغيرها.

 

ثالثا الإخراج:

جاء فيلم هوبال بتكوين وتأثيث رائعان و بمقدمة عالمية احترافية  . قدم عبد العزيز الشلاحي رؤية إخراجية جيدة تعكس معرفته الجيدة جدا بمكامن حكي القصة بصرياً وإرتباطها بالهوية السعودية , فحرص على إستخدام أحجام اللقطات المناسبة في وقتها المناسب في مكانها المناسب بدءً من بداية الفيلم مرورا بوسطه وإنتهاءً بنهايته. من المشاهد التي لفتت إنتباهي هو مشهد مداواة الجد ليام لحفيدته ريفا داخل الخيمة حيث إختار المخرج أن يتم تصوير الحدث من خارج الخيمة عوضا من داخلها في إسقاط رائع وجميل لروحانية تلك اللحظة التي تجمع الضحية والقاتل في عمق الصحراء وقت الليل في خيمة صغيرة.كان هذا المشهد أسراً بحق. كما أن  التركيز على شخصية عساف كمحور مهم يقود الأحداث كان بارزا لإشتغال المخرج فجاء عساف عفويا في تمثيله وأداءه وقدم دورا اشبه ما يكون بالسينما الوثائقية منها إلى السينما المروية  وهذا بالنهاية هو جهد وإشتغال مخرج بطبيعة الحال.حكي القصة بصريا جاء فنيا مواكبا لتوجهات هذا النوع من الأفلام (حتى في لقطات الطائرات العسكرية المحاربة مثلا ) متشبثا بقوة السيناريو معتمدا على أداءات الممثلين .

 

 

 

رابعا الممثلين والحوارات:

جاء عساف كشخصية رئيسية كعامل مهم جدا في إقناعنا بشكل كبير بواقعية الأحداث داخل القصة المتخيلة. حيث برز الطفل حمد فرحان في تقديم الشخصية الدرامية ذات العمق والبساطة في أنٍ واحد. كما برزت الجدة نورة التي قد نتفق جميعا أنها أتت بروح المرأة البدوية وكانت حاضرة في تمثيل هذه الدور بشكل ملفت. وتباعاً  قدم كلٌ من من إبراهيم الحساوي (الجد ليام) وميلا الزهراني(سرة) ومشعل المطيري (شنار) أدواراً صعبة واضحة المجهود والخبرة حيث أقنعتني أدوارهم في تجسيد ملامح القصة والبيئة والصراع الاجتماعي الكامن داخل العائلة بمختلف توجهاته.

ومن الملاحظ في الحوارات المستخدمة بالفيلم أنها حوارات سعودية بحتة قد توقع الكثير من المشاهدين في مشقة لمحاولة فهمها لكنها في الوقت ذاته تزيد من جمالية الفيلم وحكي القصة .اتخذت الحوارات طابع الشاعرية والحكم والمواعظ مع الالتزام بأسلوب طرق الرصاص ( ما قل ودل )  في أحيانٍ كثيرة في طول وقصر هذه الحوارات.اختار كاتب السيناريو حوارات منتقاة بدقة عكسها لاحقا الممثلون بأداءات وإيحاءات موفقة في أغلب مشاهد الفيلم.

 

خامسا: الموسيقى التصويرية

كانت الموسيقى التصويرية هي أحد العناصر المكملة والمهمة في الفيلم .حيث وفقت الموسيقية سعاد بو شناق في تقديم تحفة صوتية خلابة نابعة من صلب وروح المحيط وفضاء القصة بالصحراء. لم تشطح الموسيقى كما لم يتم وضعها إلا في مكانها الصحيح والذي يحسب بشدة لمخرج الفيلم هذا التأني والحرص. لن تفارقك البتة تلك القشعريرة التي شعرنا بها جميعا لحظة إكتشافنا لموت عساف وتغلغل الموسيقى التصويرية في بصيلات شرايينا.

 

أخيرا، شذرات من الفهم والصورة:

 جاء فيلم هوبال ليضع بين أعيننا وفي طيات مشاعرنا عدة إطروحات أهمها صراع العلم والجهل، القوة والضعف، التمرد والطاعة، الشك واليقين، الكمال والنقص، الماضي والحاضر, التقليدية والحداثة, الصدق والنفاق, التضحية والأنانية . كما عكس الفيلم ثورة الأجيال الجديدة على المعتقد القديم البائد الذي لا يسمن ولا يغني من جوع بل ويقتل في أسوأ الأحوال.

في هذا الفيلم نرى كيف يمكن أن تتحول الطاعة العمياء إلى سلاحٍ فتاك يورد معتنقيها إلى موارد الهلاك. كيف يمكن للإنسان أن يبدأ رحلة اليقين بالشك والتساؤلات. كيف يمكن أن تضحي في سبيل من تحب وأنت تعرف أنك قد لا تنجو.

كيف هي الكثير من مجتمعات العالم الثالث تخاف من التقدم والحداثة تحت غطاء من التكثيف الديني اللاواعي. كيف يمكن أن تكون المدينة في نظر الكثيرين معقلا للفساد والخطيئة وتكون الطبيعية ممثلة بالصحراء مكانا للتطهير.

كيف تمنيت شخصيا أن لا يعود الجد ليام من معتكفه من الصحراء ويبقى مصيره مجهولا ليكتمل إعجابي بالفيلم وربما ليشكل إنتقامي الشخصي منه لقسوته وعنجهيته.

وجدانية الانفراد بعناصر الطبيعة في الصحراء وربطها بالمذنبات القادمة من السماء, فالليل في الصحراء ليس كأي ليل والمساء في الصحراء ليس كأي مساء.

 

وأخيرا: أثار حزني الشديد موت عساف داخل صهريج الماء والذي جاء رائعا مبتكرا شاعريا وخاتما كما أثار تفكيري مشهد الطائرات العسكرية التي تجوب سماء  الصحراء وكأن العالم يشهد تحولا سياسيا عسكريا في وقت نشاهد فيه قصة جانبية صغيرة من الأرض لعائلة سعودية صغيرة في كبد الصحراء, وكأن مخرج الفيلم يقول لنا , بينما العالم هناك في خضم الحرب وألعاب السياسة , تجري قصةُ قد لا يلتفت إليها أحد لكنها متصلةٌ مباشرة بما ذكرتُ قبلها. ودعوني أستحضر مشد البداية والختام من الفيلم الأوسكاري (روما إنتاج 2018 ) للمخرج الأوسكاري ألفونسو كوايرن حيث يبدأ الفيلم بطائرة تحلق في سماء المدينة وينتهي بطائرة تحلق في سماء المدينة وكأن المسافرين في تلكما الطائرتين لا يلقون بالا لقصة العاملة اللاتينية ومعاناتها طول قصة الفيلم على الأرض.

 

 

 

 

 

 

 

 

الاثنين، 20 يناير 2025

شيءٌ من عباس كياروستامي - الجزء الأول من رباعية فلمية ( Where is the friend's House )

 



رباعية فلمية: شيءٌ من عباس كياروستمي

الفيلم الأول:

Where is The Friend House

 

حيث أن للصوت خارج الكادر مع الصورة الثابتة سحر وإيقاع مختلف يشد المشاهد ويُثبت حواسه في حالة شعورية واحدة ألا وعي الترقب لما سيأتي بعده، يستفتح فيلم المخرج الإيراني الكبير عباس كياروستامي "أين يقع منزل صديقي" أولى مشاهده ببابٍ موصد لفصلٍ دراسي نسمع ما وراءه من أصوات لمجموعة من الطلبة الصغار وهم في حالة من الفوضى والصراخ. ويُصاحب هذا المشهد الموبوء بالترقب والصخب ظهور عبارة على الشاشة ألا وهي معهد التنمية الفكرية للأطفال والشباب كإحدى الجهات الراعية للفيلم كون كياروستامي هو أحد مؤسسي قسم الإخراج في هذا المعهد مع بدء موجة السينما الإيرانية الجديدة في السبعينات ثم إنتاج أول فيلم لهذا القسم للمخرج ذاته حمل عنوان " الخبز والشارع " والذي صرح عنه كياروستامي قائلا: الخبز والشارع أول تجربة سينمائية بالنسبة لى، وقد كان صعباً جداً. فقد كنت مضطراً للعمل مع طفل صغير وكلب وفريق غير محترف.


عودة ً إلى فيلمنا موضوع الإنطباع، ندخل مباشرة في المشهد التالي الذي يصور لنا مجموعة من الطلبة الإيرانيين صغار السن ودخول معلم الفصل عليهم ليوبخهم قليلا ثم يبدأ في التنقيب عن واجباتهم المنزلية وصولاً إلى إكتشافنا لحادثة إهمال الصبي محمد رضا في الاهتمام بواجباته ودفتره المدرسي. في هذا المشهد الذي جاء أولا ثم أخيرا في نسق سير المشاهد بالفيلم سنشعر بحجم وكمية التفاصيل التي وضعها لنا كياروستامي في السيناريو الذي كُتب بدقة متناهية. سنبحر مباشرة في شاعرية كياروستامي وبساطة الطرح المعنوي والموضوعي ونحن نستمع إلى حوارات الشخصيات بين المعلم وطلبته. والذي سيمعن التركيز منا سيجد أن محور الحوارات في هذا المشهد المهم والكبير هو كمية الصعوبات والمشقة التي كان يعانيها الطفل الإيراني ليحصل على قوت يومه من العلم وكذلك تعزيز مبدأ الإنضباط الغير مشروط والذي يبدو بدهيا لا سيما في ظل سنوات ليست ببعيدة  من نجاح الثورة الإسلامية في إيران .هنالك أربعة أطفال رئيسين في هذا المشهد كانوا حلقة الوصل في تبيان تلك الصعوبة وهم محمد رضا نعمة زاده (الطالب المهمل) و علي حيماتي (إبن عم محمد رضا) وهما من قرية بعيدة تسمى بوشتيه وأحمد بور (بطل الفيلم- الطالب المجتهد) وأخيرا الطفل مرتضى ( الذي يشكو ألما في ظهره). ولنتأمل جيدا في تفصيلة قد تغيب عن المشاهد الغير فطن ألا وهي الطالب الأخير مرتضى الذي صرح مباشرة لمعلم الفصل بأنه يعاني من ألمٍ في ظهره لا يستطيع على أثره الجلوس على الكرسي بشكل جيد, وسنكتشف لاحقا مع تقدم الفيلم أن هذا الطالب مرتضى يعمل مع والده في صناعة الحليب ويدفعه والده لحمل صهاريج ضخمة ثقيلة مما يعزو سبب شعوره بألمٍ دائم في ظهره.


إذن لدينا مشهد إستهلالي ولنعتبره (مشهد ماستر) قاتم شديد السواد يبين لنا مدى قسوة الحياة التي يعيشها طلاب العلم الأطفال داخل الفصل مع معلم لا يعرف سوى لغة الانضباط وخارج الفصل مع عائلاتهم التي تكرس مبدأ الانضباط ولكن بازدواجية مؤثرة تطرح تساؤلا عن القيم الإنسانية العامة وارتباطها بتطبيق الجيل القديم(الأجداد) والجيل الوسطي (الأباء) والجيل الحديث(الأبناء) في مجتمع قروي في إيران في تلك الحقبة. في هذا المشهد حرص كياروستامي على غمسنا في الشعور بالضعف والقهر وإنعدام الحيلة أمام النظام الذي ما ينفك يزجي بالأوامر ويقيم الفرد كجزء من البحث عن تكاملية الجماعة دون مراعاة لإعتبارات أو ظروف أخرى. كانت فتحة النافذة في الفصل بهذا المشهد هي الباعث الوحيد لنفس رطب ما بالمشهد وكان المعلم بين الفينة والأخرى يتوجه بوجهها إليها وكأنه يستمد شيئا ينقصه ليعود مجددا إلى طلابه الضعفاء الفقراء.


أولئك القادمون من قرى الريف أمثال بوتشيه وخنفار وكوكر لديهم وجهات نظر مختلفة للحياة والماضي والمستقبل. ونجد ذلك ماثلا أمام أعيننا بالملامح والحوار في المشاهد التي تلت مشهد الفصل الدراسي حينما نتعرض لعائلة أحمد بور وبقية العجائز في الفيلم. وفي حقيقة الأمر ستجد أن كياروستامي أعطى جل تركيزه على إظهار جيلين من الشخصيات الذكورية هما الأطفال والعجائز في فيلمه وكأن مرحلة الوسطى الذكورية هي مرحلة مهمشة حائرة مبعثرة التفكير والقرار لا يشذ عنها سوى معلم الفصل ( الثلاثيني ربما) . في المرحلة الوسطى التي تكاد تختفي ولا يظهر لها أي تأثير واضح على السلوكيات والتنمية الفكرية للطفل وتشكيل فكره وطريقة تعامله مع الأمور والأوامر على حدٍ سواء. ولنضرب بهذا مثلا والد الطفل البطل أحمد بور الذي نراه شخصيةً شبه عدمية ساكنة لا تؤثر كثيرا في نفس أحمد مثلما تفعل شخصية أمه الوسطى الأنثوية السلطوية الكاسحة. قسم كياروستامي شخصياته على مبدأ الأجناس والعمر وتأثير هذه العوامل في تشكيل بيئة الحياة القروية الريفية بالمجتمع الإيراني. فنجد العجوز الذكر المتسلط الذي لا يرى من مكافأت الحياة متمثلةً كنتائج جيدة في السعي للإنضباط الكامل وتنفيذ الأوامر دون مناقشة (مرجع لقصة المهندس والعمال التي يحكيها جد أحمد بور) دون أن يتفهم هذا الجد أن للطفل مأربه وبراءته و رغباته مصراً على ترسيخ كون الطفل ألة لتلقي الأوامر وتنفيذها فقط وبطريقة براغماتية عملية ويحضرني هنا مفكر ولياس جيمس أحد أشهر فلاسفة البراغاماتية حيث يقول أن المنفعة العملية هي مقياس صحة الشيء.  كما نجد الأم (أم أحمد بور) التي نراها كمثال صارخ لربة البيت التقليدية التي تحافظ وبطريقةٍ قاسية على تمشية أمور منزلها بما يتفق مع مصلحة المنزل فقط ضاربة ٍ بعرض الحائط ما دون ذلك. حتى في اللحظات التي كنا نراها معالم الفضيلة والأمانة شاخصة في طفلها أحمد الذي كان يلح ويصر على أن يُرجع الدفتر إلى صديقه محمد رضا نعمة زاده -وإلا سيتعرض محمد رضا للطرد- كانت الأم ماتزال ترى أن مصلحة أبنها (بيتها) هي العليا ولتذهب بقية المصالح إلى الجحيم. ونجد أيضا الطفل بطلنا نموذج القيمة الإنسانية الرفيعة الشفافة والمرهفة أحمد بور الذي يجسد قيم الوفاء والإصرار والشجاعة والعزيمة. أحمد بور الطفل (وهو يحمل نفس إسم الشخصية بالفيلم) كان بمثابة الثائر على فكر مجتمع قروي يقدس ويرسخ الانضباط الغير مشروط فنجده ملحاً مصرا. حينما تتأمل وتسمع إيقاع حوارات الطفل بالفيلم تتجلى لديك سعة من الطرب الموسيقي الذي تستلذه في الشعر وتشعر أن حوارات أحمد مع أي شخصية يجدها بالفيلم هي أبيات شعرية كُتبت بلا اتساق وبعفوية مطلقة جعلتنا نصدقها بوجود ذلك الوجه البريء الحائر الثائر لدى أحمد. ونجد أيضا شخصية الأب (والد أحمد بور) الذي نسمع عنه في بداية الفيلم ولا نراه إلا في مشهد واحد فقط في وقت متأخر من الليل صامتا دون أن ينبس ببنة شفه .كانت لغة العيون وتفصيل حركة الجسد في عيني والد أحمد باهتة ولكنها مكتومة بشيء ما يشعرك بخليط بين مشاعر العجز والقوة في إن واحد. ونأتي لشخصية الجدة (جدة أحمد) التي ربما تكون من مدرسة الإنضباط السلوكي إياه ولكن بشكلٍ أخف يقترب من حنان الجدات وطيبتهن. جدة أحمد كانت ترى الإنضباط منهجا تعليميا لا يشترط فيه العقاب مثلما كان يراه المعلم وجد أحمد وأمه. وأخيرا نأتي إلى شخصية الجد صانع الأبواب الذي يُعبر وبكل إندفاعية عن تلك الفجوة الحاصلة بين الجيل القديم والجيل والوسطي حيث ربطها بمهنة صناعة الأبواب وتلك الرمزية الرائعة بين قوة ومتانة أبواب الخشب وقيمتها وبدء سطوة الأبواب الحديدية, شاعرية جميلة جدا تدفعك إلى تخيل صور من بواعث قيم الإنسان كالتمسك بالجذور ونوستالجيا العيش في الماضي ذو المساحات المعرفة المحددة. هل كان هذا الجد أيضا أحد عناصر الإنضباط التي لا ترى في الجديد القوي قيمة ؟ هذا السؤال يُترك للجمهور وأحاسيسه وفهمه.


وبعدما تطرقنا إلى الشخصيات بالفيلم, دعونا نتحدث قليلا عن الصورة في هذا الفيلم. حيث جاءت اللقطات الثابتة الغزيرة والقليلة المتحركة بشكل متسق مع تركيز كياروستامي على حكي القصة أكثر من تركيزه في جماليات الكادر والتي بوجهة نظري الشخصية جاءت جميلة عفوية بلا تصنع ولا صنع حيث تغذيها جالمية البيئة القروية الريفية التي تجري فيها أحداث القصة من بيوت وطرقات قديمة ومساحات خظراء ويابسة تارة. لا يمكن أن تتجاهل مشاعرك أو تخفي إنبهارك بتلة التلة الخظراء اليابسة التي قطعها أحمد ذهابا وأيابا في رحلته للبحث عن منزل صديقه محمد رضا. كانت تلك التلة بمثابة الحاجز أو محطة العبور بين قرية كوكر وقرية بوشتيه مربطي فرس أحداث قصة الفيلم.وكأن أحمد بور كان يسعى بين الصفا والمروة مهرولا في تلك التلة مدفوعا بحمى أيمانية مبعثها الوفاء لصديقه ورغبة في إنقاذه من خطر قد يهدد مصيره بإقصاءه من المدرسة وفقده للفرصة التعليمية في زمن يحتاج بشدة إلى العلم والمتعلمين.كان أحمد في صعوده تلك التلة كشاعرٍ يحمل رسالةً مقدسة هاربا من السفلي نحو العلوي, فالسفلي هو معايير وقسوة وسلوكيات مجتمع وازدواجيته في النظر إلى الأمور والعلوي كان الأمل والحلم بشيء جديد يسمى التغيير للأفضل عبر التمسك بالإنسان وهمومه اللحظية الحقيقية. وأنا أتامل تلك التلة حضرني بيت أبو قاسم الشابي: ومن لا يحب صعود الجبال، يعش أبد الدهر بين الحفر". كانت ألوان الفيلم خلابة بشكل عفوي أنتقلت بين الأصفر والأخظر الفاتح والبرتقالي والبني المشبع. هي ذات الألوان السينمائية التي تتناسب تماما مع الجو العام للريف والقرى الجبلية.


ختاما لهذا الجزء، نلاحظ أسلوب كياروستامي الإخراجي الذي سخره لتوطين مجموعة من القيم الإنسانية مثل قيمة الحياة والموت والتغيير وارتباط هذه القيم بالمجتمع القروي الذي ربما يكون وعاء عذراء للصورة السينمائية. كيف كانت المشاهد الطويلة ذات الحوارات المقتضبة المختصرة باللقطات الثابتة باعثا لتأثرنا وتركيزنا على أحداث قصة الفيلم. كيف كان يطلعنا على المنظور بوجهة نظر الإنسان المتابع. كمية الفكاهة والشاعرية المتجسدة في الكثير من مشاهد الفيلم واستخدامه لتقنيات السرد البصري بتمكنٍ عال جدا.


أما خاتمة الفيلم فجاءت مشفيةً للغليل بعد كل ما سبقها من تعنت وتسلط وقمع وأنانية ومغامراتٍ طريفة, حيث تمت العدالة لمحمد رضا بمساعدة صديقه الوفي أحمد بور, ولنسميه المنقذ الحقيقي لمصير إنسان في بداية حياته.


هيثم سليمان

سيناريت ومخرج سينمائي

20- يناير - 2025 م 



السبت، 30 نوفمبر 2024

الزمن والإنسان بلسان بضعة أمتار من المكان "أحدهم نسي كاميرته لعدة قرون هنا"

 




الزمن والإنسان بلسان بضعة أمتار من المكان

"أحدهم نسي كاميرته لعدة قرون هنا"

 

مدخل : مشهد نهاري خارجي لدليل سياحي يقود فوجا من السياح لمشاهدة معلم أثري(مكان) ويحدثهم عنه يبدون في غاية الإبهار والدهشة والتركيز. لنقلب الآية الأن ولنسأل سؤالا واحدا فقط, ماذا لو تحدث المكان عن ما مر به دون حاجة إلى وسيط فانٍ كالبشر, وأعني بالمكان هنا الأرض, تلك المخلوقة التي حكُم عليها أن تشهد مأسي وطمع وسحر البشر وكذلك روعته.

عبر هذا المدخل الذي يدور كحلقة مفرغة في وجدانك وأنت تشاهد الفيلم الرائع   Here

إخراج وسيناريو الأمريكي روبرت زيميكس الذي أتحف أنظار البشرية بالفيلم الأيقوني فوريست غامب بطولة النجم توم هانكس. وعندما نتحدث عن التوافقية بين ذاك كممثل وذا كمخرج ها هما مجددا يجودان لنا بفيلم رائع وبأبسط فكرة ممكنة وبأكبر قدر من العمق تتسع له مساحة السرد البصري والتلقي.

يحكي هذا الفيلم وبلسان بضعة أمتار من مكان ما على وجه الأرض قصص أجيال وأجيال من البشر عبر منظور اللقطة الواسعة لردهة منزل وكيف إنتقلت هذه المساحة منذ عصر الديناصورات وحتى يومنا هذا إلى مكان يضم أطنانا مليارية من المشاعر والأفكار والتجارب وبطبيعة الحال تقادم الزمن. إن هذه الفكرة وبالرغم من بساطتها لكنها تتسم بعمق الطرح وفجائية الوقوع على النفس .لنا أن نتخيل أن شبرا على هذه الأرض وعبر ألاف السنين ؟,كم حكاية في جعبته ليرويها وكم كائنا حيا مر عليه وحفر فيه ذكرى ما. يكاد هول الفكرة يتسق مع بساطتها اللامتناهية. وكأن الحال بالفيلم يقول لك يتغير كل شيء من حولي وأنا الثابت المطلق.

نغوص في رحلة هذا الفيلم بين الماضي والحاضر لنشهد حقبا من تأريخ الأرض قبل تأريخ الأمريكان أنفسهم ونفتح تباعا أقفالا في ذاكرة المواطن الأمريكي والعائلة الأمريكية وما قبلها العائلة البريطانية المستعمرة والإنسان القديم وتفاعلهم مع بعضة أمتار من المكان بينما يهرول الزمن تارة ويلتقط أنفاسه تارة أخرى متمهلا في عرض الفواجع أتراحا وقيم السعادة أفراحا.

 

سبق وأن تحدثت عن قوة اللقطة الثابتة في أفلام المخرج السويدي روي أندرسون على وجه الخصوص فيلم (عن الخلود) إنتاج 2019 والذي ترشح لجائزة الأسد الذهبي لهرجان فينيسيا السينمائي وفاز بها عن فئة الإخراج. في فيلمنا الذي نتحدث عنه تتضح سطوة وقوة اللقطة الثابتة في حكي ما يقارب 100 دقيقة من الأحداث وعدة قرون من الزمن من زاوية واحدة وكأن أحدهم نسي  عبثا الكاميرا الخاصة على حامل ترايبود لبضعة قرون في تلكم الأمتار البسيطة.

هذا الفيلم يتسفز فيك الكثير من الأفكار والمشاعر - وجعلني منجذبا له كثيرا هو نمط دراما أفلام التسعينيات التي صاحبناها نحن أبناء جيل الثمانينات بكل ما تحمله من كلاسيكية شاعرية وقوى أداء الممثل وحنين إلى دراما الصورة البعيدة عن التكلف وسطوة التقنية الحديثة المبالغ فيها- حيث يجعلك تفكر في قيمة الإنسان مقابل الأرض(المكان) ومقابل الزمن وكيف هي ثقافته ووعيه وأنماط تفكيره و مزاجاته تتغير من زمن إلى أخر. لنا أن نعتبر هذا الفيلم توثيقية بصرية لتاريخ مجموعات من البشر تراوحوا على بضعة أمتار من الأرض تملكا أو عبورا.

وحينما نتغاضى عن بعض الهنات في السيناريو ونستوعب استحالة عدم تسارع الأحداث المربك أحيانا في القبض على جميع فواصل تلك القصص التي قدمها الفيلم سندرك أن الفيلم يشكل فرجة بصرية ماتعة مغلفة بالتساؤلات ومحركة للمشاعر في عدة منعطفات من أحداث الفيلم لا سيما تلك الخاصة بالفقد والرحيل وكأن المكان بجبروته يقول لك عبر تلك الصور , أنا مازلت هنا باقٍ وأنتم راحلون لامحالة.

 

كما أن الفيلم يعيد إلى الأذهان تجربة المخرج مارتن سكورسيزي الأخيرة ( الرجل الإيرلندي ) إنتاج 2019 حينما استخدم تقنية الذكاء الصناعي والسي جي أي لإعادة ملامح الشباب للمثلين في فيلمه كروبرت دينيرو ومن معه. في هذا الفيلم أعادنا زيميكس إلى تلك الإمكانية المعجزة – وأقول أنها معجزة لأنها كذلك فعلا – في أن ترى توم هانكس شابا يافعا ثم أربعينيا ثم ستينيا خلال 100 دقيقة من عمر الزمن وكذلك زوجته الممثلة روبن رايت. هل سبق وتساءلت يوما عن ماهية الشعور وأنت ترى نفسك شبابا في سن الستين مثلا ؟

 

ختاما, هذا الفيلم هو أحد أفضل الأفلام التي شاهدتها في العام 2024  كطرح وإخراج وقوة في الفكرة, وسيظل إلى وقتٍ ما يثير تلك التساؤلات التي لا تنتهي عن الإنسان والزمن والمكان, حكاية المثلث الذي لطالما داعب وجدان المفكرين والشعراء والفلاسفة والعلماء على حدٍ سواء.



هيثم سليمان 

"مخرج وكاتب سينمائي "

مدونة سكريبت كت السينمائية 

30-نوفمبر-2024 

الأربعاء، 11 سبتمبر 2024

بين سردية شخصية وتشضيات مجتمع, سبعة أفلام قصيرة تبحث عن بقعة من الضوء

 

 


بعد دخولي الكامل إلى عالم ٍ مواز ٍ فور ركوبي سيارة النقل التي قطعت طريقها من مطار صلالة إلى مكان إقامتي للمشاركة في مهرجان ظفار السينمائي الدولي بنسخته العذراء, كان ثمة خطب من ذهن ليلى يجوس خلال ديار نفسي حول ما يمكن أن تحمله عروض فلمية بالربع الأخير من العام الإستثنائي 2024  دون توجس من بوح قيس للقصص التي يمكن أن تحملها هذه العروض, لا سيما وأنا الذي عاصرت مجبرا أو من طوع وقتي الفاني عدة مهرجانات محلية, ربما طمعاً في نقلة نوعية في ذائقة المشاهدة.

في فيلم السويدي (روي أندرسن) , " عن الخلود -2019 " شاهدنا الصورة الساكنة عبر مجموعة من اللقطات التي تبدو مغرية حد الثمالة بالإستكانة ولكن ومع تقدم الأحداث تتوغل بك حواف تلك الصور نحو فخ بصري يجعلك تشعر بانك تشاهد لوحات مختلفة, قياسا عليه هذا ما شعرت به وحضرني أسرا وأنا أشاهد سبعة أفلام دولية شدت إنتباهي  تقاسمت قسعة الروائي والوثائقي في حصة العروض. وإليكم ما وصلني من شعورٍ وأترك الفهم لمتشدقي فلسفة التمنطق بالمنطق.

 

أولا: الفيلم التجريبي ( وليس الروائي ) كليك, المغرب :

09:07 دقيقة

حيث أن هذا الفيلم إتسم بخصوصية الفرع الفلمي الطلائعي بنسبةٍ عالية, رجحت بتواضع أنه من المجحف أن نضعه ضمن خانة الأفلام الروائية , فالفيلم يحمل خواصا فلزية لفيلم تجريبي من كثافة رمزية ولا سردية مركزية ممعنا في التشبث بهيمنة الأصوات خلال مشاهده المتوسطة والقصيرة الطول.

وما أستفزني حقا هو الملخص الوصفي للفيلم ( البلوت ) حيث بدأ لي أن صانعه سعيد النظام قد مارس نوعا من الإجحاف القيصري لمساحة الفضاء الموضوعي لفيلمي وأكتفى بحصره في فضاء شبكات التواصل الإجتماعي بالرغم أن هنالك أفكارا ومواضيع عملاقة حد الهول يمكن أن تشعر بها وتقرأها وأنت تشاهد الفيلم.

بكوادر ثابتة مميزة تحركت فيها الأجسام وبحركة كاميرا تارة أخرى نذهب في قصة الفتاة الموهوبة التي تحاول أن تعبر عن ذاتها وإبداعها في فضاء يُكرس نظرته الضيقة للهامش دون الإبداع الحقيقي بل ويضيق على الأخير الخناق أكثر مما تحتمل كأبة الصورة.أعجبني جدا توزيع الأجسام بالفيلم والإسقاط الفذ للجنائني (عامل الحديقة) الذي بالكاد يجعلك تتناسى وجوده وكأن المخرج يقول لك , هل فهمت ما أعني الأن ؟

 

ثانيا : فيلم قصة صالح , السعودية :

15:16 دقيقة – روائي

يأخذك زكي عبدالله عبر فيلم المساحات المليمترية الضيقة في إحدى المجموعات القصصة الواقعية التي تحكي مبدا ألإنسان اللعنة والهِبة أو كما أطر دانتي في الكوميديا الإلهية بين الفردوس والجحيم, حيث نرى الزمن وفضاء الإمكانات المجتمعية يصبان جام غضبهما على البطل ويدفعانه نحو هاوية نيتشه ولا أبالغ هنا.وأنت تشاهد هذا الفيلم مأسورا باللغة السينمائية فيه وألوانه المتاخمة لحكي القصة بصريا , تشعر بذلك الإختناق الحقيقي الذي يفقع جنبات مرارتك وتذهب في جميع فصول ما قبل النهاية وأنت تقول كما قال غوزيه ساراماغو " لا شيء يُبشر بشييء ".

لا أدري لماذا اقتطفت ذاكرتي الصورية مشهدا مشابها من فيلم أصغر فرهادي (إنفصال) وأنا أشاهد طريقة إعتناء البطل بأبيه وأذهلتني التفاصيل الدقيقة التي تناثرت هنا وهناك بإنتظام غير مدروس لتضيف جمالية واقعية للأحداث وتعمق الشعور بالقصة.لم يكن برأي الشخصي  الإشتغال على الإضاءة الداخلية والخارجية للمشاهد  كافيا وكان في حينه من الممكن أن يضيف الكثير للفيلم.

في رحلة بطل الفيلم هنالك صراعُ أسود في الموازنة بين الحرية والواجب ( ولنقل الدين),جل هذا الصراع لم يكن المجتمع المحيط قادرا على إستيعابه وفهمه .بين رغبات البطل البسيطة الكثيرة ومن بينها   توفير صحن الإلتقاط الفضائي (الدش)  ليحظى والده بشاهدة ماتعة (وهي رغبةُ سامية سلوكا وفكرا ) إلى رغبته في الحصول على أنصاف ٍ ما من المجتمع المحيط (يُحاذقه المجتمع المؤسساتي المتعلم الذي من المفترض أن يكون بمثابة القدوة ) يتشظى بطلنا الصغير لينجرف نحو الهاوية وبشكلٍ فجائي صادم كلنا كنا نعي ونفهم ما أوصله إليه لكنه جا صادما بالنهاية وربما بأبشع وسيلة ممكنة , الحرق. ويبقى السؤال هنا , هل كان الأب يستحق ما أحاق به ؟ هل حمل البطل صكا يخوله لإرتكاب الجرم حسب معطيات الأحداث ؟ هل جاء الخلاص مكيافيلا بحتا من منطلق الغاية تبرر الوسيلة يا ترى ؟ ولنسال أنفسنا هل يؤهلنا الضغط المجتمعي والمادي للإنفجار اللاواعي ؟ و أجزم أن زكي عبدالله سيخوض تجارب ومشاوير ماتعة بصريا وهو يقدم لنا هكذا أفلام مستقبلا تسحرك التفاصيل فيها وتصدمك نهاياتها.

وفي اخر نفس ٍ لي والفيلم يسدل أستاره , همست لنفسي وقلت " ليت هذا الفيلم كان فيلما طويلا ".

 

ثالثا :فيلم  أزمة قلبية , سوريا

15:34 دقيقة - روائي

(مكان في الزمن-2023 ) نواف الجناحي , ربما أخذني فيلم ازمة قلبية إلى الفيلم الأنف الذكر حيث يبدو لك ومن الوهلة الأولى تباعا بأن قيمة الحدث بالفيلم قوامها السكون والهدوء الذي غالبا ما يصاحب منزل عجوز وحيدة .يأخذنا عمرو علي مخرج الفيلم في تفاصيل متنوعة في يوم من حياة الأم العجوز مع إحساسٍ عال بالعناصر الفنية كالإضاءة واللقطات التي تمت خياطتها بدقة في رتق كل ومضة عين تشاهدها.

كان من الكارثي بمكان لو كسر مخرج الفيلم الرتابة الشهية والناعمة لتسلسل الأحداث دون موسيقى ولكن ولله الحمد جاء كامل الفيلم دون موسيقى فعلا ليفتح بابا أخر من لذة حس المشاهدة وتعميق عيشنا للقصة ثم المصيبة التي كانت تجلس  على كرسي العجوز المنكوبة.

اسقاطات إنسانية جمة حول قيم الأسرة والجيرة والرحمة والامبالاة يطرحها الفيلم أمامنا بشكل مباشر وغير مباشر ليجعلك تكره العجوز في بداية الفيلم ثم تحبها بشدة في نهايته.في هذا الفيلم ستشتم رائحة الأطباق التي لم يأكلها أحد طُبخت له, وتفتقد الأنس العائلي الذي لم يجلس على طاولة الطعام وتشعر بألم قطتي البناية وهما يموءان بحزان تناديان العجوز بعد رحيلها وتغوص في كأبة المنظر وأنت تستمع لطرق باب مندوب التوصيل وإتصال الإبن المتكرر.

في هذا الفيلم الذي أعجبني جدا وأعتبره أفضل فيلم روائي قصير عُرض في المهرجان , يخبرنا عمرو من بين حواف النسيان الطبيء المتهمل في جنائزية موغلة بالحزن والتبسم مستحضرين مقولة محمود درويش الخالدة " وتُنسى وكأنك لم تكن ".



رابعا : فيلم ترانزيت , العراق

16:08 دقيقة - روائي

حسنا , كان هذا الفيلم محيرا, لا في الفهم وإنما في المسافة الفاصلة التي قد تجعلك تشعر بالملل من تكرار الحدث ونمط الموقع الواحد والشخصية الواحدة الحضورية لكنك سرعان ما تتخطى الملل لتستوعب وتشعر  وتعذر مخرج الفيلم باقر الربيعي ما فعله وخلقه من عالم كئيب خانق داخل مساحة ضيقة من الموت والرجاء.

في حقيقة الأمر, صنُاع الأفلام العراقيين بارعون جدا في سينما المأساة القائمة على الجنائزيات والمخلفات النفسية للحروب فلا غرابة أن ترى فيلما متمكنا في إذكاء مشاهد تؤكد هذه الحقيقة. لقد شهدت كما كبيرا من الأفلام العراقية القصيرة التي تتناول الحرب والمقاومة والإرهاب لحد يجعلني أؤمن بأن التمكن هذا هو قيمة مضافة لكنها مسوغة مدفوعة بواقع هم يعرفونه جيدا وتوفر فضاء الإمكانات من مواقع تصوير وغيره.

يعقوب الموظف بقسم الإحصاء بالمستشفى يلعب دور الحانوتي الذي لا يدفن الموتى بل يدفن القلوب ويمتلك تلك القدرة العجيبة على إسعاد شخص ما بإطعامه الحقيقة أو الكذبة أو على النقيض تدميره نفسيا بأطعامه العلقم المر (نبأ الوفاة ) .يأخذنا يعقوب عبر عمق الشعور والتعاطي مع المتصلين المتواصلين للمنشأة في رحلة قواما الترقب وكأن من يتصل هم نحن نرغب في سماع خبرٍ سار  وكأن من نسال عنه هو شخصٌ نحب ونخشى أن نفقده.

لقد ساهم اللون والضوء كعناصر فنية باقرا ليخرج لنا بهكذا فيلم يؤطر الحدث ويوسط الشخوص انتقالا عبر ثلاثة فصول قصيرة تنتهي بإكتشاف المأساة الفاجعة.

 

خامسا: فيلم ظفائر تائهة , مصر

13:48 دقيقة – روائي

فيلم للمخرجة دعاء وهبه يأخذك وبشكل مباشر تلقائي لقضية تهميش الإنسان ذو الاقلية او المناطقية الصغرى. لعبت المخرجة على وتر الجانب الإنساني في إخبار الحكاية في سردية تناقلتها فصول متسارعة مختلفة من القصة بحيث يقوم كل فصل على حدث بارز يؤسس لما بعده ليتمكن المشاهد من العبور بالزمن مع أبطال الفيلم من بقي منهم ومن رحل دون أن يصعب علينا ملاحظة طرح الجانب التاريخي للقضية ماضيا وحاضرا.

إتسمت لغة الفيلم بالتلقين المباشر سواء من الحوارات التي جرت على لسان الشخصيات أو من الأداء المتخم بموسيقى حزينة تستفيض وربما في بعض الأحيان تستجدي عاطفة المشاهد. لم يكن هنالك غموض ولا ألغاز في هذا الفيلم فكل شيء واضح تمام اليقين وجميعنا متفقون على النسبوية السلطوية في معاملة أقليات من الشعب وتسييرهم حسبما يشتهي علية القوم.

وإلى جانب كل هذا فالفيلم يطرح تسائلات وجودية مجتمعية هامة تتمخض حول قيم العدالة والمساواة وحق تقرير المصير الذي سُلب غصبا وبهتانا من مريم إحدى الأخوات التي تم بيعها بداعي الفقر دون أن يكون لها حق في قول كلمة "لا ".

إتسم الفيلم بالوعظية المباشرة التي تغيرت في نهاية الفيلم إلى حوار يتسم بالعمق والتبطين بين إحدى الأخوات وخطيبها (أو حبيبها ربما ). هذا الفيلم يجعلك تتساءل حتما, هل الأمل معلقٌ في حزام خاصرة رجل غني او سياسي كبير أو رب عمل ساخط ؟

 

سادسا : فيلم حوض , السعودية

14:48 دقيقة – روائي

هل السمكة سبب في شقاء الحوض أم هو الحوض سببٌ في شقاء السمكة ؟ أول سؤال تبادر إلى ذهني وأنا أشاهد الفيلم الشخصي للمخرجة ريما الماجد والذي يسبر أغوار رحلة علياء ونهمها المحموم في تحويل قصتها إلى فيلم سينمائي.

من المشهد الأول يشدك الفيلم عبر عناصر الفضاء الفنية من إضاءة وميزانسين وتصميم إنتاج ليقودك نحو صراع مشحون بين شخصية مستفزة تكبح الإبداع وحرية التعبير وبين شخصية حالمة ترغب في ممارسة أبسط حقوقها, التعبير ذاته ولكن من خلال قصة ما.

وكأنما كانت علياء هي السمكة التي تسبح في حوض ضيق يمكن أن ينكسر بأي لحظة جراء قسوة الضغط المجتمعي والسحق المستمر للموهبة وملكات الإبداع. وكأن السمكة كانت كنز علياء الخاص الهش الذي تحاول حمايته مهما كلفها الأمر, ولأذهب بعيدا جدا وأقول وكأن السمكة هي جنين عليا الذي سيموت لو خرج من الحوض ( الحلم والأمل )  فتسعى لحمايته من العالم الخارجي إياه.

إتسم الأداء التمثيلي للشخصية الرئيسية بالواقعية مع تحفظي قليلا على واقعية واتقان الأداء التمثيلي لشخصية الأب الذي لم ينقعني كما أقنعتني الممثلة بدور علياء أو الطفلة التي قامت بنفس الدور إياه وكما أقنعني أيضا جميع مشهد الفصل الدراسي بجميع عناصره الفنية والأدائية.

في هذا الفيلم توجه ريما أسئلة شخصية للوجود والمجتمع عن أحقيتها في التعبير والحلم, وكأنما تسهب في سردية بين الماضي والحاضر . تلك السردية التي تنقل لنا هول التقليد والتبعية المطلقة ( مشهد الفصل وحركة الدمى ) وتزيد من إثخان الجرح حينما يتصل الأمر مباشرة بالعائلة التي لطالما رسمنا في عقلنا اللاواعي مصطلحات شعبوية مرتبطة بها " كالسند والعزوة والمحزم والعون  والتشجيع ".

هذا الفيلم يعطيك نظرة خاصة لما يعتمل في نفسك كفنان يرغب في قول ما لديه وبطريقته الخاصة دون إكتراث لما سيقوله العالم عنه.

شخصيا أتمنى أن تسلك المخرجة مثل هذا المساق في تجارب أكثر ربما طويلة بالمرة القادمة لتزيد من حصتنا في الاستمتاع بالتعبير الشخصي لمشاعر وفكر صانع فيلم.

 

سابعا : فيلم وردة , الأردن

13:32 دقيقة -وثائقي

وأنا أشاهد فيلم (وردة ) للمخرجة رحمة الشماسي إستدعت ذاكرتي  مشاهدا من الفيلم الأوسكاري  (روما) للمخرج الفونسو كوايرن ,2018 بالأبيض والأسود والذي يتحدث عن قيم إنسانية متضمنة في الهجرة والأمل المفقود.

يجرك فيلم وردة دون تردد منك لتعيش قصة عاملة المنزل  (أسانكا) وتشعر بمعانتها في تناقل بين حكي قصتها الخاصة وبين ما تخبرنا به المترجمة من بنات جلدتها.اختارت المخرجة أن تنقل لك قصة واقعية موثقة بالأبيض والأسود مما أفضى بعدا وعمقا عززه اسلوب المخرجة في حكي القصة بصريا وتنقلاتها بين فصول الحكاية دون أن تبعد أصابع حواسك ولو للحظة عن لمس مادة وثائقية خام. هذا الأسلوب الذي ينم عن تمكن المخرجة في فرد عضلاتها الفنية بأريحية تامة ليتناغم هذا الفرد مع حكي القصة .

وإنه من الشجاعة بمكان أن تخرج مثل هذه القصص من مجتمعات محافظة  تحوز فيها المؤسسة التنظيمية التشريعية نصيب الأسد لتأخذ طريقها نحو عين المشاهد, شخصيا أعتبر هذا الفيلم نقطة جيدة جدا في سجل الشفافية الأردني بالتعامل في طرح مثل هذه القصص والقضايا في وقت أصبح فيه المجتمع الغربي حساسا حد إزدواجية المعايير في وصمنا بأوصاف مثل  (تُجار البشر)  متناسين ماضيهم الموغل في القدم في هذه المهنة.

(أسانكا) تحكي قصتها وكذلك المترجمة التي تنقل ألاما ومواجع كلها تدور في غاية محمومة واحدة ألا وهي الهرب من هذا البلد للرجوع إلى مسقط راسها سيرلانكا.وفي أثناء حديث هاتين الشخصيتين بالفيلم, ستشعر بالتناص الحميد بين الموضوع المطروح كمادة خام للفيلم وبين تنقلات اللقطات ومزج تحرير اللقطات بأسلوب المخرج في لوحات فنية رائعة قوامها الضوء والعتمة واللونان الأبيض والأسود وأجزاء من متعلقات (أسانكا) الثبوتية المدنية. بل وتذهب المخرجة لأبعد من ذلك لتربط الفضاء الخارجي للمدن بفضاء داخلي خاص جدا يتمثل بمعاناة العاملة دون أن تفقد تحكمها في إيقاع الفيلم وهيكلة الفيلم.

فيلم جريء , مخرجة متمكنة تطرح قصتها بأسلوب وثائقي حديث يوصلك للمقصود وأنت تبهر بسحر الصورة.

 =================================

هيثم سليمان

كاتب ومخرج سينمائي 

الخامسة صباحا

11/9/2024