
هوبَال
بين المُعتقد
والتمرد جنائزية متخمة بالهوية
هذا الفيلم يحتاج
إلى مشاهدة شديدة التركيز بعيدة عن الضوضاء والأحاديث الجانبية التي قد نقترفها وقت
تواجدا في صالات السينما مع العلم أن إضاعة دقيقة واحدة من الفيلم ستكون مبعثا
لفقدان القدرة على ربط الأحداث ببعضها البعض طوال الفيلم
منذ طرحه في
دور السينما السعودية يوم 2 يناير 2025، حقق الفيلم مبيعات تجاوزت التوقعات، في
أول ثلاثة أيام، بيعت أكثر من 32,980 تذكرة، محققًا إيرادات تجاوزت 1.5 مليون ريال
سعودي. ولم يتوقف النجاح عند هذا الحد، بل ارتفعت الأرقام بشكل كبير في الأسبوع
التالي لتصل إلى إجمالي 9.1 مليون ريال سعودي خلال أسبوعين، مع بيع أكثر من
199,000 تذكرة
في حيزٍ زمني
يصل مداه إلى حوالي 112 دقيقة قدم لنا المخرج السعودي عبدالعزيز الشلاحي واحداً من
أفضل إشتغالات السينما السعودية الشابة بل هو أفضلها على الإطلاق حتى الأن حسب رأي
الشخصي الذي شاركني فيه العديد من النقاد السينمائيين والفنين أمثال الناقد
السعودي فهد اليحيى عضو مؤسس لجمعية السينما السعودية. لطالما كان هنالك سباق
محمومة من الرهانات على تقدم السينما السعودية لاسيما في ظل الوفرة والسخاء في
الإنتاج والتي لم تكن بهذا المستوى سابقا. عليه لن نستغرب بروز فيلم كهذا الفيلم
الذي بين يدينا اليوم وإنما بقي السؤال في حينه هو في أي مرحلةٍ من هذه الوفرة سيظهر
مثل هذا النتاج، فجاء الجواب على لسان الشلاحي: مبكراً ربما.
كوني أحد
المخرجين الشباب الذي يسعدون دوما برؤية إنتاجات زملائهم المخرجين الشباب في الوطن
العربي , لطالما كانت بوصلة السينما السعودية عامل جذب يدفعني إلى صالة السينما
بين الحين والأخر كلما سمعنا عن فيلم ٍ سعودي يصبح حديث الساحة فتكرر هذا النمط
لدي عدة مرات في فترات متقاربة سواء في إشتغالات تلفزيون 11 أو مع بقية المخرجين ونسوق هنا بعض الأمثلة على
أبرز الأفلام التي شاهدت مثل مشعل الجاسر (ناقة
2023 ) , علي الكلثمي (مندوب الليل 2023 ) , أبو بكر شوقي (هجان 2023 ) , محمد
السلمان (أغنية الغراب ), فارس قدس (أحلام العصر 2023 ) , أيمن جمال (بلال 2015 )
, عبدالله العراك (سطار 2022 ) , مالك نجر ( راس براس 2023)
وما يثير
الأسئلة والإعجاب أن ترى السينما السعودية قادرة على التنوع في القوالب وطرق الطرح
ضمن موجة الأفلام الشابة الجديدة التي تطرق مختلف المواضيع والقضايا وتأتي بمختلف
الطرائق الإخراجية وأطروحات القصص. إن ما يعزز هذا النمط من تنامي ونضج التجربة
لدى المخرجين السعوديين هو شهي وإقبال الجماهير السعودية والعربية على نتاجاتهم
مصحوبا بتلك الخلطة المغرية التي نتمنى أن
نراها كتجارب في عدة دول عربية أخرى لدينا، خلطة المعرفة والمال
وبعد هذه
المقدمة التي كان لا بد منها – ولك أن تأخذ بعضاً منها كمرجع للمشاهدة – نبدأ
الغوص في بعضٍ من تفاصيل فيلمنا الحالي، هوبال وذلك من خلال عدة محاور.
أولا القصة:
ولكي نقف جميعا
على عتبة بابٍ واحد لفهم القصة قبل أن نفهم ونشعر بجمالياتها التي صاغها كاتب
السيناريو الرائع مفرج المجفل دعونا في البداية نسردها من باب الفهم لا أكثر.
فهنالك شخصيات حاضرة نراها رؤى العين ونتفاعل معها مباشرة وهنالك شخصيات غائبة
لكنها تمارس من الأثر ما يجمع قطع الأحداث بالقصة وخطوطها الدرامية. لدينا هنا كلٌ
من:
الجد ليام: كبير العائلة والرجل
المتسلط فيها والذي يؤمن بأن قيام الساعة قد اقترب
الجدة نورة: زوجة الجد ليام التي
تنصاع لسلطة زوجها وتحاول إدارة العائلة في غيابه
سطام : أحد أبناء الجد ليام – وهو الإبن الذي خضع لأمر
زوجته وترك العائلة وطريقة عيشها بالصحراء وذهب إلى المدينة وعمل في السلك العسكري
هناك متمردا على أوامر أبيه الجد ليام.
نهار : أحد أبناء الجد ليام –
وهو الإبن الذي نراه صامتا في معظم قصة الفيلم بسبب نذرٍ قطعه على نفسه بعد موت
أخيه ماجد وزوجته.
ماجد: أحد أبناء الجد ليام -
والذي عصى أوامر أبيه وفر بزوجته المريضة بالحصبة نحو المدينة من أجل علاجها
لكنهما تعرضا لحادث سيارة تسبب به مباشرة أخوه نهار.
شنار : أحد أبناء الجد ليام –
وهو زوج سرة زوجة ماجد السابقة .شنار هو
الإبن الذي يبدو ظاهريا أنه ينصاع بطاعة مطلقة لوالده الجد ليام لكنه يخفي سر ما
يتعارض مع هذه الطاعة بشكلٍ صريح.
بتال: أحد أبناء الجد ليام –
وهو أصغر الأبناء وأكثرهم حرصا على إتباع تعليمات أبيه ليام بالرغم من رغبته
العارمة في الزواج والاستقرار بالمدينة.
سرة: وهي الفتاة التي أحبت
ماجد سابقا لكنها تزوجت من أخيه شنار. كما أنها أم الصغيرة ريفا التي نشاهدها
مصابة بالحصبة في بداية الفيلم.
صيتة: زوجة نهار التي فُجعت
بموت إبنتها غزيل بسبب الحصبة وتعاني من هجر زوجها نهار لها وعدم حديثه معه مذ
توفي أخاه ماجد.
معتوقة: وهي عاملة لدى العائلة
قامت الجدة نورة بتبنيها وتكن للجدة نورة حبا شديدا لكنها ترغب بالزواج من أحد
أبناء الجد ليام.
ريفا: وهي الطفلة الصغيرة
إبنة شنار وسرة المصابة بالحصبة والتي تخوض صراعا بين عصيان جدها ليام وبين رغبتها
في العلاج من المرض.
عساف: إبن ماجد الذي كان
يجهل سبب وفاة والده ويحاول جاهدا مساعدة إبنة عمه ريفا للهروب إلى المدينة لتلقي
العلاج.
غزيل: إبنة نهار وصيتة التي
توفيت بسبب الحصبة ومعها تبدأ أحداث الفيلم وهي إبنة عم ريفا وإبنة عم عساف.
المعلم السوداني: وهو معلم مدرسة يقوم
بتعليم أطفال العائلة القراءة والكتابة.
يحكي فيلم
هوبال قصة عائلة سعودية زمن بداية التسعينات من القرن العشرين خلال الفترة التي
شهدت قيام حرب الخليج الثانية حيث تخرج هذه العائلة من المدينة بعد أن قرر كبيرها
(الجد ليام ) نبذ المدينة والعيش في الصحراء المتاخمة للحدود السعودية الكويتية في
وقتٍ تعاني فيه عائلته من حصد مرض الحصبة لأفراد العائلة. حيث أُصيب بهذا المرض
سابقا زوجة إبنه ماجد ثم أصاب لاحقا حفيدته غزيل ابنة ولده نهار ثم حفيدته ريفا
إبنة ولده شنار ثم أخيرا حفيده عساف إبن ولده ماجد ليطال المرض بهذا التسلسل كل مولودٍ
من أحفاد الجد ليام لأبناءه المتزوجين.
حيث يؤمن الجد
ليام بأن قيام الساعة قد إقترب من كثر ما رأى من أثام وفساد في المدينة فقرر
النزوح بعائلته إلى الصحراء وممارسة الإعتكاف والتعبد هناك. وفور بداية الفيلم
الذي ينكشف عن مأساة دفن غزيل إبنة نهار وصيتة نلاحظ مباشرة وجود خلافٍ ما ضمن
العائلة ولن ننسى مشهد قتل الكلب في بداية الفيلم من قبل شنار عم المتوفاة غزيل
بحكم تعود الكلب على صحبة غزيل واحتمالية نقله لعدوى الحصبة للجميع.
ومع تقدم
الأحداث نبدأ في التعرف على أوجه الخلاف والخصام وفروض الطاعة العمياء واشكال
التمرد السابق أيضا. حيث نعرف أن نهار والد غزيل لا يتحدث مع الجميع حتى زوجته
المنكوبة صيتة بفقد إبنتها حديثا (غزيل). فنشهد بداية سلسلة الأكاذيب والمظللات
التي يسوقها الجد ليام بإدعاء أن صمت نهار ينبع من صدمته من وفاة أخيه ماجد لحبه
الجم له بينما سنعلم لاحقا أن صمت نهار هو بسبب قتله لأخيه ماجد زوجته عندما كان
ماجد يحاول إيصال زوجته الى المدينة لتلقي العلاج. حيث قطع نهار نذرا على نفسه
بعدم الحديث حتى يصل عساف إبن أخيه ماجد إلى سن البلوغ ليخبره بحقيقة موت والده
التي يخفيها عنه الجميع ليعترف بذلك بجريمته النكراء تاركا خيار القصاص أو السماح
لعساف. كان حال عساف كحال بقية أطفال القرية يعتقدون أن من تسبب في وفاة أبيه ماجد
وأمه هو دعوات الجد ليام وعدم رضاه عن ماجد وزوجته.
كما نعرف
المحاولات المستميتة التي تبذلها سرة زوجة شنار من أجل إقناع الجد ليام بالسماح
بذهاب إبنتها ريفا وحفيدته هو إلى للمدينة لتلقي العلاج وبالرغم من حب الجد ليام
لسرة لكنه يرفض رفضا قاطعا أن تغادر ريفا إلى المدينة تماما كرفضه أن يغادر أي فرد
من أفراد أسرته إلى المدينة وإلا سيحل غضبه ودعواته عليه. وفي حقيقة الأمر يأتي
معتقد دعوات الجد ليام على أي فرد يسخط عليه بمثابة قانون منزل ومحكم أشبه بالسلاح
الفتاك الذي يصيب من يطاله بلا هوادة مما يجعلنا نشعر بذلك التخوف السائد بين
أفراد العائلة من دعوات الجد ليام وينبع هذا المعتقد من مصدر ديني يتعلق بطاعة
الوالدين ورضاهما والعقاب والثواب.
وفي الوقت الذي
تحاول فيه سرة بشتى الطرق إقناع الجد ليام وزوجها شنار بإصطحاب ريفا الى المدينة للعلاج،
نبدأ في التشعب في علاقات أفراد العائلة بعضهم ببعض وبالماضي . فنعرف أن سرة كانت
تحب ماجد والد عساف لكنها تركته لتتزوج من أخيه شنار والكل تقريبا يعيبها على هذا
التصرف. ونتعرف على بتال الذي يبدو ساخطا من العيش في الصحراء لاسيما بعدما فقد
فرصة الزواج بحبه الوحيد إبنة مرزوق. ونعرف أيضا أن صيتة تعاني الأمرين بعد فقدها
لإبنتها غزيل وغياب زوجها نهار وتجاهله المستمر لها حتى في الفراش. ونذهب في بعدٍ
أخر يتمثل في علاقة الجد ليام بأحفاده الأطفال ومحاولته لتفسير العلاقات الأسرية
والطبيعة من منظوره الخاص. وفي خضم ذلك نشاهد الفعل المتكرر لشتار الذي يقوم بفريغ
صهريج شاحنة نقل المياه متعمدا دون سببٍ واضح في وقت يخوض فيه خصاما ظاهرا بينه
وبين أخيه بتال يتعلق بطاعة أبيهم العمياء والمفاضلة بينها وبين العيش في المدينة.
وفي داخل مساحات النساء نشاهد العلاقة بين سرة وصيتة ودور الجدة نورة في تمكين
معتقدات وأوامر زوجها الجد ليام داخل تلك المساحات.
كل هذه الخطوط
المتشعبة من العلاقات والتي حُبكت بمهارة بالغة تعزز وتغذي الحدث الرئيسي بالقصة
ألا وهو فرار ريفا إلى المدينة لتلقي العلاج بمساعدة عساف الذي يظهر بالفيلم بدور
البطل المنقذ المخلص المتمرد على تعاليم الجد ليام وأوامره.
وحينما يفرغ
صهريج الماء بشاحنة نقل المياه يغادر شنار لجلب المياه في وقت يقرر الجد ليام وسط
هذه المعمعة الذهاب إلى معتزله للاعتكاف كعادته سابقا، تبدأ الأحداث داخل الفيلم
في التصاعد في غياب الجد حيث ينجح عساف في تهريب ريفا عبر الحدود الكويتية إلى
المستشفى عبر طريقٍ خطرة تخلى فيها نهار عن مطاردتهما فيها استشعارا لذنبه القديم
في قتل والدي عساف بالسيارة عمداً. وحينما يغادر بتال عم عساف وريفا للبحث عنهما
يكتشف بمجرد وصوله إلى المدينة أن أخاه اللدود شنار في ضيافة مرزوق بل وقد تزوج من
حبيبة بتال وله منها طفلة صغيرة مما يدفع بمشاعر الغضب في قلب بتال ويقلب العلاقة
بين الأخوين إلى أتون ملتهب لتصبح الغاية الوحيدة لبتال هي إخبار أبيه ليام عن
فعلة أخيه ومعصيته له فور عودة الجد من معتكفه في عمق الصحراء.
تنجو ريفا من
المرض وتعود مجددا إلى الصحراء لكن عساف ونتيجة لإختلاطه بريفا أثناء طريقهما الى
المستشفى يُصاب بالحصبة فتنقلب الأية رأسا على عقب لنرى ريفا تسهر خارج خيمة العزل
اصحي في الصحراء بينما يعكف عساف داخل الخيمة مريضا لا حيلة له لاحقا.
وفي الوقت الذي
تزداد فيه حدة الصراع بين بتال وأخيه شنار فيما يتعلق بإكتشاف سر زواجه من إبنة
مرزوق وإزدياد حالة عساف المرضية صعوبةً وتردد سرة والبقية في إصطحاب عساف إلى
المستشفى لتلقي العلاج, يتفاجأ الجميع بعودة الناقة الخاصة بالجد ليام في اليوم
السابع وحيدة إلى المخيم مما يطرق باعثا للخطر ونذيرا للشؤوم في قلوب الجميع
فتتولى الجدة نورة مباشرة قيادة المجتمع العائلي الصغير ويصبح لدى الجميع هدفٌ
واحد ألا وهو العثور على الجد ليام الذي ذهب للإعتكاف.
وحينما يفشل
جميع الأخوة في العثور على الجد في الصحراء , تستعين الجدة نورة بعساف ( الذي
يعاني الأمرين من المرض) ليقتفي أثر الجد ليتم العثور على أغراض وعدة التخييم
الخاصة بالجد في قعر إحدى الحفر ( مكان سقوط مذنب) لكن بدون وجود الجد ليام نفسه. فتبدأ
موجة عاصفة من التساؤلات والتكهنات عن مكان إختفاء الجد فهل دخل إلى داخل فتحات
الحفرة أم ذهب لمكان أخر؟ هل هو ميت أم حي ؟ لتبقى هذه التساؤلات حتى نهاية الفيلم
دون إجابة.
في الوقت الذي تزداد
فيه حالة عساف المرضية حرجاً يبوح نهار عم عساف بسره الأليم ويتحدث إلى عساف من
خارج الخيمة مبيحا بقتله المتعمد لماجد وزوجته (والدي عساف) طالبا من عساف أن يتخذ
القرار الذي يراه مناسباً بشأنه, يتعرض عساف لصدمة نفسيه ويغرق في البكاء نتيجة
هذا الإعتراف المُر. وفي جانبٍ أخر تحاول سرة هي والعاملة معتوقة تهريب عساف إلى
الكويت لتلقي العلاج في الوقت الذي كان فيه بتال عازما على تهريب عساف بدوره
نكايةً في أخيه شنار لكن سرة ومعتوقة كان لهما السبق فيحملان عساف داخل صهريج
المياه متجتهان إلى الكويت في سباق ٍ مع الزمن, لكن القدر يحكم بموت عساف في
الطريق قبل أن يصل الركب إلى المدينة لينتهي الفيلم بمشهد دفن عساف بجوار قبر إبنة
عمه غزيل وتستمر العائلة في طريقها بالصحراء مجددا بدون وجود الجد ليام الذي لم
يعد.
وبعدما حكينا تفاصيل
القصة عبر فصولها الثلاثة بداية، وسط ونهاية دعونا نذهب إلى باقي الانطباع
ثانيا:
السيناريو
جاء سيناريو
فيلم هوبال رائعا محكما ثقيلا بالخطوط الدرامية وبحبكة نكتشف عبر مراحلها سرا مع
تقدم أحداث الفيلم حيث حرص كاتب السيناريو على طرح قصة بطريقة مختلفة متشابكة
الخطوط متصلة بماضي وحاضر ومستقبل ممعناً في تبيان الفجوة والسلوك والفكر الذي جمع
ثلاثة أجيال داخل عائلة سعودية في حقبة زمنية محددة.
حرص مفرج
المجفل على التوغل عميقا في مكنونات الشخصيات بقصته وجعل القصة الخلفية للشخصيات
حاضرةً طوال خط السردية ومؤثرةً على مفاصل الأحداث الرئيسية بالقصة لا سيما في
بدايتها. كما أن الوعي الجيد بفضاء القصة ودوره في تبيان تطور الشخصيات وإختلاف أو
برود إيقاعها ساهم في تثبيت واقعية جيدة إنعكست على أداء الممثلين لاحقا لا سيما
الجد ليام وعساف وسرة وشنار.
ونحن ُنرحل في
سيناريو الفيلم نستشعر البعد الاجتماعي والتاريخي في فضاء القصة لاسيما أن جزئية
مواقع التصوير كانت أغلبها بالصحراء في تلك الحقبة فتارةً نكتشف الجد ليام وسطوته
وتأثيره على المجتمع المصغر الذي يقوده مع إسقاطٍ واضح لمستوى فكر الجد وتارةً
نكشتف روح عساف المتمردة التي تتأرجح بين الشك واليقين مع إسقاطٍ لطابع الطاعة
والتربية في العائلة وهلم جرا من المكنونات الأخرى. لقد حرص كاتب السيناريو أن
نتكشف مراحل تطور شخصيته الرئيسة عساف بمهل وتؤدة وكأننا في طريقٍ رملي وسط
الصحراء قد لا ترى ما ينذر بالتغيير مباشرةً لكنه أتٍ لا ريب من خلال الأسئلة
والتساؤلات سواءً مع جده ليام أو إبنة عمه ريفا. كما توغل كلٌ من الكاتب والمخرج
الفني في وصف دقيق لفضاء القصة من حيث مكونات الكادر من ملابس ومعدات ومشروبات
وغيرها.
ثالثا الإخراج:
جاء فيلم هوبال
بتكوين وتأثيث رائعان و بمقدمة عالمية احترافية . قدم عبد العزيز الشلاحي رؤية إخراجية جيدة تعكس
معرفته الجيدة جدا بمكامن حكي القصة بصرياً وإرتباطها بالهوية السعودية , فحرص على
إستخدام أحجام اللقطات المناسبة في وقتها المناسب في مكانها المناسب بدءً من بداية
الفيلم مرورا بوسطه وإنتهاءً بنهايته. من المشاهد التي لفتت إنتباهي هو مشهد
مداواة الجد ليام لحفيدته ريفا داخل الخيمة حيث إختار المخرج أن يتم تصوير الحدث
من خارج الخيمة عوضا من داخلها في إسقاط رائع وجميل لروحانية تلك اللحظة التي تجمع
الضحية والقاتل في عمق الصحراء وقت الليل في خيمة صغيرة.كان هذا المشهد أسراً بحق.
كما أن التركيز على شخصية عساف كمحور مهم
يقود الأحداث كان بارزا لإشتغال المخرج فجاء عساف عفويا في تمثيله وأداءه وقدم
دورا اشبه ما يكون بالسينما الوثائقية منها إلى السينما المروية وهذا بالنهاية هو جهد وإشتغال مخرج بطبيعة
الحال.حكي القصة بصريا جاء فنيا مواكبا لتوجهات هذا النوع من الأفلام (حتى في
لقطات الطائرات العسكرية المحاربة مثلا ) متشبثا بقوة السيناريو معتمدا على أداءات
الممثلين .
رابعا الممثلين
والحوارات:
جاء عساف كشخصية
رئيسية كعامل مهم جدا في إقناعنا بشكل كبير بواقعية الأحداث داخل القصة المتخيلة.
حيث برز الطفل حمد فرحان في تقديم الشخصية الدرامية ذات العمق والبساطة في أنٍ
واحد. كما برزت الجدة نورة التي قد نتفق جميعا أنها أتت بروح المرأة البدوية وكانت
حاضرة في تمثيل هذه الدور بشكل ملفت. وتباعاً
قدم كلٌ من من إبراهيم الحساوي (الجد ليام) وميلا الزهراني(سرة) ومشعل
المطيري (شنار) أدواراً صعبة واضحة المجهود والخبرة حيث أقنعتني أدوارهم في تجسيد
ملامح القصة والبيئة والصراع الاجتماعي الكامن داخل العائلة بمختلف توجهاته.
ومن الملاحظ في
الحوارات المستخدمة بالفيلم أنها حوارات سعودية بحتة قد توقع الكثير من المشاهدين
في مشقة لمحاولة فهمها لكنها في الوقت ذاته تزيد من جمالية الفيلم وحكي القصة
.اتخذت الحوارات طابع الشاعرية والحكم والمواعظ مع الالتزام بأسلوب طرق الرصاص (
ما قل ودل ) في أحيانٍ كثيرة في طول وقصر هذه
الحوارات.اختار كاتب السيناريو حوارات منتقاة بدقة عكسها لاحقا الممثلون بأداءات
وإيحاءات موفقة في أغلب مشاهد الفيلم.
خامسا:
الموسيقى التصويرية
كانت الموسيقى
التصويرية هي أحد العناصر المكملة والمهمة في الفيلم .حيث وفقت الموسيقية سعاد بو
شناق في تقديم تحفة صوتية خلابة نابعة من صلب وروح المحيط وفضاء القصة بالصحراء.
لم تشطح الموسيقى كما لم يتم وضعها إلا في مكانها الصحيح والذي يحسب بشدة لمخرج
الفيلم هذا التأني والحرص. لن تفارقك البتة تلك القشعريرة التي شعرنا بها جميعا
لحظة إكتشافنا لموت عساف وتغلغل الموسيقى التصويرية في بصيلات شرايينا.
أخيرا، شذرات
من الفهم والصورة:
جاء فيلم هوبال ليضع بين أعيننا وفي طيات
مشاعرنا عدة إطروحات أهمها صراع العلم والجهل، القوة والضعف، التمرد والطاعة، الشك
واليقين، الكمال والنقص، الماضي والحاضر, التقليدية والحداثة, الصدق والنفاق,
التضحية والأنانية . كما عكس الفيلم ثورة الأجيال الجديدة على المعتقد القديم البائد
الذي لا يسمن ولا يغني من جوع بل ويقتل في أسوأ الأحوال.
في هذا الفيلم
نرى كيف يمكن أن تتحول الطاعة العمياء إلى سلاحٍ فتاك يورد معتنقيها إلى موارد الهلاك.
كيف يمكن للإنسان أن يبدأ رحلة اليقين بالشك والتساؤلات. كيف يمكن أن تضحي في سبيل
من تحب وأنت تعرف أنك قد لا تنجو.
كيف هي الكثير
من مجتمعات العالم الثالث تخاف من التقدم والحداثة تحت غطاء من التكثيف الديني اللاواعي.
كيف يمكن أن تكون المدينة في نظر الكثيرين معقلا للفساد والخطيئة وتكون الطبيعية ممثلة
بالصحراء مكانا للتطهير.
كيف تمنيت شخصيا
أن لا يعود الجد ليام من معتكفه من الصحراء ويبقى مصيره مجهولا ليكتمل إعجابي
بالفيلم وربما ليشكل إنتقامي الشخصي منه لقسوته وعنجهيته.
وجدانية الانفراد
بعناصر الطبيعة في الصحراء وربطها بالمذنبات القادمة من السماء, فالليل في الصحراء
ليس كأي ليل والمساء في الصحراء ليس كأي مساء.
وأخيرا: أثار
حزني الشديد موت عساف داخل صهريج الماء والذي جاء رائعا مبتكرا شاعريا وخاتما كما
أثار تفكيري مشهد الطائرات العسكرية التي تجوب سماء الصحراء وكأن العالم يشهد تحولا سياسيا عسكريا
في وقت نشاهد فيه قصة جانبية صغيرة من الأرض لعائلة سعودية صغيرة في كبد الصحراء,
وكأن مخرج الفيلم يقول لنا , بينما العالم هناك في خضم الحرب وألعاب السياسة , تجري
قصةُ قد لا يلتفت إليها أحد لكنها متصلةٌ مباشرة بما ذكرتُ قبلها. ودعوني أستحضر
مشد البداية والختام من الفيلم الأوسكاري (روما إنتاج 2018 ) للمخرج الأوسكاري
ألفونسو كوايرن حيث يبدأ الفيلم بطائرة تحلق في سماء المدينة وينتهي بطائرة تحلق
في سماء المدينة وكأن المسافرين في تلكما الطائرتين لا يلقون بالا لقصة العاملة
اللاتينية ومعاناتها طول قصة الفيلم على الأرض.